للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول ابن دقيق العيد في شأن بقاء الرمل والاضطباع ونحوهما مما بقي من الأحكام بعد زوال سببه:

في ذلك من الحكمة تذكر الوقائع الماضية للسلف الكرام. وفي طيّ تذكرها مصالح دينية. إذ يتبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله، والمبادرة إليه، وبذل الأنفس في ذلك. وبهذه النكتة يظهر لنا أن كثيراً من الأعمال التي وقعت في الحجّ، ويقال بأنها (تعبد)، ليست كما قيل. ألا ترى أنّا إذا فعلناها وتذكّرنا أسبابها، حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين، وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله، فكان هذا التذكّر باعثاً لنا على مثل ذلك، ومقرِّراً في أنفسنا تعظيم الأولين. وذلك معنى معقول" (١). اهـ.

ثم ذكر أن السعي بين الصفا والمروة اقتداء "بفعل هاجر، وأن رمي الجمار سببه فعلُ إبراهيم، إذ رمى إبليس بالجمار في هذا الموضع". اهـ.

فالذي نقوله إذن في فعله - صلى الله عليه وسلم - الرمَل والاضطباع، إنه اتخذ أساساً، وضعت العبادة على مثاله.

فإن قيل: هذا يدل على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - يقتدي بها حتى بعد زوال السبب.

فالجواب: إن ما جعل منها مثالاً هو الذي يتبع. كالرمل والاضطباع، دون ما لم يجعل مثالاً، كحمل السيوف مثلاً، أو قعقعة السلاح، أو غير ذلك. والفرق بين النوعين أن الأول وضعته الشريعة أسلوباً للعبادة، ولم تضع الثاني. وإن كان هذا الثاني مستحبّاً عند وجود سببه وهو إخافة المشركين. لكن لم تجعله الشريعة جزءاً من عبادة الحج. ولو جعلته لصار منها.

والحاصل، أن الفعل النبوي إذا فعل لسبب، ثم زال السبب، فإنه لا يقتدى به إلا بدليل يدل على ذلك، وهو قول أبي إسحاق المروزيّ المتقدم ذكره. والله أعلى وأعلم.


(١) الإحكام ٢/ ٧٥

<<  <  ج: ص:  >  >>