المذهب الثاني: ذهب أحمد في رواية، ومالك في قول، والشافعي في قول، إلى أنه يجب السجود على الجبهة والأنف كليهما. ومأخذ هذا شبيه بمأخذ المذهب السابق من أنهما كعضو واحد، ولكن لا يكتفى بأحد جزأيه عن الآخر، لأن العبارة تقتضي السجود على الوجه، والإشارة تقتضي السجود على الأنف. ولا يجوز على هذا القول جعلهما عضوين منفصلين، لأن الأعضاء تكون بذلك ثمانية، وهو خلاف الحصر الوارد في أول الحديث.
وقد رجّح ابن دقيق العيد هذا القول على القول السابق، قال: لكون الجبهة والأنف داخلين تحت الأمر، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور. يعني أنهما في التسمية والعدد يجعلان عضواً واحداً. ولكن الحكم أن يسجد عليهما جميعاً، تطبيقاً لدلالة العبارة ودلالة الإشارة.
المذهب الثالث: ذهب أحمد في رواية ثانية، وهو قول لبعض الشافعية، إلى أن السجود على الجبهة دون الأنف يجزئ، ولا يجزئ السجود على الأنف وحده.
وكأنّ مأخذ هذا القول رؤية التعارض بين العبارة والإشارة، فقدمت العبارة على الإشارة. وقد وجهه ابن دقيق العيد بأن الإشارة لا تعيِّن المراد يقيناً لتقارب ما بين الأنف والجبهة، بخلاف التعبير فهو يحدّد المراد. فيقدم.
وهذا عندي واضح جدّاً. وقد سبق أن أشرت إليه في تعارض الكتابة والإشارة، فيظهر -على قول الجمهور- أن ابن عباس لم يلاحظ الإشارة ملاحظة دقيقة. هذا على روايته (إلى أنفه)، وهي رواية مرجوحة، والثابت في أكثر النسخ من البخاري (على أنفه).
وعندي أن فهم هذه الرواية يحل الإشكال. فإن (على أنفه) لا يجوز أن تفهم على أنها تعني (إلى أنفه) فلم يعهد في اللغة تعدية (أشار) إلى المشار إليه بـ (على) وإنما تعدّى إليه بـ (إلى). ولذا ينبغي أن يقال في (على أنفه) إنها تعني أنه وضع إصبعه، أو أصابعه، على أنفه، وأطرافها متجهة إلى الجبهة. ومن المعلوم أن المشار إليه هو ما يتجه إليه رأس الإصبع، والظاهر أن الإصبع كانت متجهة برأسها إلى الجبهة، وإن كان حرفها مرتكزاً على الأنف، ولذلك قال (على أنفه)