للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الصبر من عوامل السعادة وأسباب الخير]

وقد جمع الله العلم والعمل والدعوة والصبر في سورة عظيمة قصيرة، وهي سورة العصر، حيث قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١-٣] فجمع عوامل السعادة، وعناصر الربح، وأسباب الخير في هذه الأمور الأربعة.

فالواجب على أهل العلم، وعلى أتباع أهل العلم، وعلى كل مؤمن أن يأخذ نصيبه من هذه الصفات الأربع، حتى ينجح ويربح، فالناس في خسران في أيامهم ولياليهم وسائر أحوالهم {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] ، هؤلاء هم الرابحون، وهم الناجحون، وهم السعداء، من عالم ومتعلم، ومن سائر المؤمنين والمتخلقين بهذه الأخلاق.

وقد أقسم على هذا سبحانه وهو الصادق وإن لم يقسم جلَّ وعَلا، ومع هذا أقسم، فقال: {وَالْعَصْرِ} [العصر:١] ، والعصر هو الزمان، يقال لليل والنهار: العصران.

فالمراد أنه سبحانه أقسم بالليل والنهار اللذَين هما محل أعمال العباد، من خير وشر، أقسم بذلك على أن جنس بني آدم في خسران {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] .

ومعلوم أن الرب عزَّ وجلَّ له أن يقسم بما شاء من خلقه، لا أحد يتحجر عليه سبحانه وتعالى، فقد أقسم بأشياء كثيرة من مخلوقاته: {وَالطُّورِ} [الطور:١] {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:١] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:١] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:١] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:١] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:١] ، إلى غير ذلك، لِمَا في هذه المخلوقات من الحكم العظيمة، والدلائل على قدرته سبحانه، وأنه رب العالمين، وأنه يستحق أن يُعْبَد سبحانه وتعالى.

لكن المخلوق ليس له أن يقسم إلا بربه، العبد ليس له أن يحلف إلا بالله وحده سبحانه وتعالى، ولا يجوز له أبداً أن يحلف بغير الله لا بالكعبة، ولا بالأنبياء، ولا بالأمانة، ولا بحياة فلان، ولا شرف فلان، بل هذا كله منكر، ومن المحرمات الشركية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) متفق عليه، وفي لفظ: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) خرَّجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه.

وخرج أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) .

فلا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بالأمانة فليس منا) ، فالحلف بغير الله من المنكرات القبيحة، ومن الجرائم، ومن أنواع الشرك؛ لكنه شرك أصغر في الجملة، وقد يكون شركاً أكبر إذا كان في قلب صاحبه تعظيم المخلوق كتعظيم الله، أو أنه يصبح إلى أن يعبد من دون الله، أو ما أشبه ذلك من العقائد، وإلا فالأصل أنه من المحرمات إذا جرى على اللسان، فهو من الشرك الأصغر، وقد حكى الإمام ابن عبد البر رحمه الله إجماع أهل العلم على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، كائناً من كان.

والخلاصة: أنه سبحانه أقسم بالعصر أن جميع بني الإنسان في خسران {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] ، هؤلاء هم الرابحون، فخصال الخير وأعمال الخير، كلها ترجع إلى هذه الصفات الأربع: - الإيمان بالله ورسوله، ويدخل في ذلك كل عمل صالح، وكل دعوة إلى الخير، وكل قول صالح، وكل ما يتعلق بترك المحارم عن نية صالحة، كله داخل في الإيمان.

- ثم أكد ذلك بقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:٣] ، تأكيداً لدخول ذلك في الإيمان، فالإيمان بالله ورسوله يتضمن تصديق الله ورسوله، وتصديق المرسلين، والإيمان بما جاءوا به، والعمل بمقتضى هذا الإيمان، وتصديق الله بما أخبر، وتصديق رسوله عليه الصلاة والسلام بما أخبر، كله داخل في الإيمان، ثم أكد ذلك بقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:٣] أي: أدوا فرائض الله، واجتهدوا في طاعته، وتركوا محارمه، عن إيمان وصدق وإخلاص.

- ثم كملوا ذلك بالدعوة إلى الله، والتواصي بالحق، والنصيحة للناس، وتعليمهم، وإرشادهم، وتفقيههم في الدين.

- ثم كملوا هذا بالصبر على ذلك، وعدم الجزع، وعدم النكول عن العمل، فصبروا واستمروا في الخير.

وهذا من آثار العلم بالله، والبصيرة في دينه، والفقه في دينه، فكلما كان العلم أكثر كانت البصيرة أكمل، وصار الانقياد في العمل والجد في العمل أكمل.

ولهذا صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ، بفقهه في الدين، وبالتبصر بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيراً، والإعراض والغفلة من الدلائل على أنه ما أريد به الخير، نعوذ بالله من ذلك! فكلما كان العبد أفقه بدين الله، وأشد بصيرة، وأكمل عناية؛ صارت حصيلته من هذه الخصال الأربع أكمل وأتم من غيره من الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

وليس هذا خاصاً بالعلماء كما تقدم؛ لكنهم هم الرأس في هذا، وهم القادة والأئمة، وإلا فليتبعهم في ذلك طلبة العلم، وكل مؤمن وكل مؤمنة، كلٌ له نصيبه من هذه الصفات الأربع على حسب اجتهاده وعمله الصالح، ونصيحته لله ولعباده، وتواصيه بالحق، ودعوته إلى الخير، وصبره على ذلك، كلما كان العبد أكمل في هذه الخصال الأربع صار نصيبه من الإيمان والأجر أكثر وأكمل.

والله المسئول سبحانه أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين للفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا التخلق بهذه الأخلاق العظيمة التي ذكر سبحانه أن أهلها هم الرابحون السالمون من الخسارة.

نسأل الله أن يمنحنا وسائر المسلمين النصيب الأوفى، والحظ الأوفر من هذه الخصال العظيمة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، إنه سميع قريب.

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.

<<  <  ج: ص:  >  >>