للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الشيخ عبد العزيز السدحان يحكي سيرة ابن باز وعلاقته معه]

المقدم: نريد أن تتكلم لنا يا دكتور وأنت من الذين عايشوه في الدلم والحمد لله في جانب الطلب وتعامله مع طلابه، كيف كان تعامله مع طلابه؟ كيف كانت دروسه؟ كيف كان برنامجه في الدروس بإيجاز؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله.

أما بعد: أولاً: نسأل الله تعالى أن يتغمد الشيخ عبد العزيز بن باز بواسع رحمته، وأن يرفع درجته في المهديين، وأن يجزيه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ثم أما بعد: فلقد أنعم الله عليَّ وأكرمني بالتعرف على شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز في عام (١٣٩٧هـ) وكان رحمه الله مثالاً عجيباً في التواضع، فعلى رغم ما نسمع عنه من سعة في العلم، وتضلعه فيه، وما له من هيبة عند ولاة الأمور، إلا أن الجالس معه يشعر أنه عند إنسان عادي بتواضعه وأخلاقه.

وكنت في صغري أتردد عليه، وعلم الله كم أجد من السعادة والراحة النفسية والبدنية عنده، وأذكر حين كنت في أول الطلب حرص الشيخ رحمه الله تعالى على التلميذ، والوصاية بالعلم، وكان يوصيني دائماً بأن أحفظ بلوغ المرام، وأذكر أنها قرابة ثمان مرات يقول لي: يا فلان احفظ بلوغ المرام، وكنت أعجب من طلب الشيخ ومن أمر الشيخ بهذا الكتاب، ثم زاد العجب لما علمت أن فتاوى الشيخ كلها لا تكون إلا مصاحبة بالدليل الشرعي، ووجدت أن عزو الشيخ للأحاديث يدل على أنه يحفظ البلوغ حفظاً تاماً، ولعل الشيخ عبد الرحمن الجلال يوافقني على هذا المبدأ.

ثانياً: أن الشيخ عبد العزيز رحمه الله وأسكنه الله جنته، كان مثالاً في السنة في لباسه وتصرفاته، مع العالم وطالب العلم، ومع العامي والكبير والصغير، فإذا رأيت في لباسه رأيت السنة، وإذا رأيت هديه وسمته وحسن منطقه رأيت السنة متمثلة فيه، وقلَّ من يجتمع فيه التمثل بالسنة في اللباس والفعال وأثناء الطعام، والعلم برجل معين، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وأذكر أني مرة قلت له: يا سماحة الوالد! محبة الناس لك هذه ما جاءت من فراغ، القبول عند الناس لا نعرف أحداً من الناس كبيراً ولا صغيراً حتى والله العاصين إلا ولك في القلب محبة فما السر في ذلك؟ فكان سماحته يتهرب بأدب ويقول: نحن مقصرون، فلما ألححت عليه، قال: يا فلان! ما أعلم في قلبي غلاً على أحد من المسلمين، ولا أعلم بين اثنين شحناء إلا سارعت للصلح بينهما.

وهذه لا يطيقها كل أحد، لفظها يسير، لكن تطبيقها عسير، وكان الشيخ مثالاً في التواضع، يدلك على ذلك حرصه على سماع الفائدة العلمية من أصغر التلاميذ، يقرأ التلميذ البحث عليه فيصغي بجميع جوارحه، تراه يتلهف لسماع الفائدة، بل يقول: أعد أعد، وقد يغير الفتوى أو ينشئ فتوى جديدة بسبب بحث الطالب له.

وكان رحمه الله عنده جلد في البحث، وقبل أن أذكر مثالاً أذكر أنه رحمه الله كان من أبعد الناس عن المدح، وعن حب سماع الثناء، أذكر من عدم حبه لثناء الناس، أن شاعراً استعطفني حتى أشفع له في إلقاء قصيدة على سماحة الشيخ، والقصة أن الشاعر كان له قريحة سيالة فقلت له: لماذا لا تمدح الشيخ بقصيدة تخلد مآثر الشيخ؟ فقال: تعدني أن ألقيها عليه، فقلت: أحاول، فنظمها ودبجها وأحسن اختيارها، فلما جاء الموعد كلمت الشيخ واستعطفته فقال: القصيدة في ماذا؟ فقلت: في شخصك أنت يا شيخ، قال: لا.

لا.

لا نحتاجها، ننفع الناس بخير منها، يا سماحة الوالد وعدت الشاعر، قال: إن شاء الله خيرها في غيرها، وبعد إلحاح من بعض المرافقين للشيخ، تكرم الشيخ حفظه الله بإلقاء القصيدة.

أيضاً: أذكر أنني دخلت على الشيخ مرة في داره وقلت: يا شيخ! عندي موضوع سأكلمك فيه، وما عندي موضوع، لكن محبة للانفراد بالشيخ، فلما انتهى الشيخ أخذته على انفراد قال: ما عندك يا عبد العزيز! قلت: والله ما عندي شيء، لكن يا شيخ تفضل الله وإنعام الله عليك بهذه المحبة من الناس هذا خير لك يا شيخ! ونعمة من الله عليك، فقال لي كلاماً لا يقوله إلا إنسان يعرف قدر العلم، يعرف معنى تعظيم الله تعالى، قال: نحن مقصرون نحتاج إلى النصيحة والتعاهد، تعاهدونا بالنصح، الإنسان لا يأمن على نفسه، فمن يقول هذا الكلام وهو في منزلة سماحة الشيخ ابن باز.

وأيضاً كان في درسه مثالاً للحلم، أذكر عام (٩٩) رجلاً توفي رحمه الله، وكان فيه حدة، فسأل الشيخ عن مسألة في صلاة السهو، وكان الطلاب ما بين ٢٠ إلى ٢٥ طالباً، فقال السائل: يا شيخ! -وأنا أسمع- إمامنا صلى المغرب أربع ركعات واختلفنا، فقال الشيخ: ما سبحتم له؟ فقال: اصبر اصبر يا شيخ دعني أكمل السؤال، فرده الثانية، قال الشيخ: هل قمتم، أم ما قمتم؟ قال: يا شيخ! لا تعجل اتركني أكمل السؤال، ونحن الطلاب على أوج الغضب، فرده الثالثة فكانت الطامة، فالشيخ أراد أن يجيب، فقال: يا شيخ! أنت عجل، أنت مفتي، اسمع وافهم السؤال، ثم أجب، فقال: إن شاء الله أبشر، فلما سأله ماذا كان جواب الشيخ؟! قال: أمهلني أياماً ثلاثة حتى أبحث المسألة.

أيضاً أذكر من حلم الشيخ وتواضع الشيخ أن فقيراً جاءه من أهل السودان في داره، وكان الفقير كبيراً في السن، فلما دخل على مائدة الشيخ عبد العزيز كان في المجلس أناس كأنهم تضايقوا من جلوس الفقير بجانبهم، فقام الفقير على استحياء وجلس في طرف المائدة، فكأن الشيخ فقده، كان على يمين الشيخ، ففقده الشيخ، فقلت: يا شيخ! قام المكان الفلاني، فالشيخ سلَّم على الذين حوله وكلمهم كلمات يسيرة، ثم قال: يا فلان! -يكلم الفقير- كيف حال الزراعة عندكم في السودان؟ حتى بدأ يتكلم كيف حال التوحيد؟ كيف حال السنة؟ وبدأ من أول المائدة حتى آخرها والشيخ في حديث معه، والرجل أخذ يتفاعل مع الشيخ في الكلام، وأخذ يتكلم مع الشيخ من أول المائدة حتى قام، لماذا؟ لأن إكرام الفقير على مائدة الكبير يبقى أثرها في نفس الفقير حتى عند موته.

وبكل حال يكفي أيها الأكارم أن نعلم أن الشيخ والد فقده الأبناء، وشيخ فقده التلاميذ، وشيخ للشيوخ فقده الشيوخ، ومرب فقده الناشئة، وبكل حال فقد جمع الله له خصالاً من الخير قلَّ أن تجتمع، وأنا أقول: لو كان الذهبي رحمه الله حياً، ورأى الشيخ عبد العزيز بن باز ورأى أخلاقه وشمائله وعلمه، لصنفه في كتابه تذكرة الحفاظ لحفظه وفقهه وسعة اطلاعه.

وبكل حال يكفي أيها الأكارم أن هذا الحدث أثر في جميع البلد، من كبار وصغار، ولا أذكر؛ كما أنكم أيضاً فيما أعلم لا تعلمون جنازة في الإسلام حدث لها من الصيت والذيوع ما حدث لهذا الرجل الصالح، وهذه عاجل بشرى المؤمن.

<<  <  ج: ص:  >  >>