[دفاع السلف الصالح عن السنة واعتناؤهم بها]
ولما قال بعض الناس في مجلس عمران بن حصين رضي الله عنه: دعنا من الحديث وحدثنا عن كتاب الله، غضب عمران رضي الله عنه واشتد نكيره، وقال: [لولا السنة كيف نعرف أن الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث؟] فالسنة بينت لنا تفاصيل الصلاة وتفاصيل الأحكام، ولم يزل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يرجعون إلى السنة ويتحاكمون إليها ويحتجون بها، ولما ارتد من ارتد من العرب قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه ودعا إلى جهادهم، فتوقف عمر في ذلك، وقال: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ؟ قال الصديق رضي الله عنه: [أليست الزكاة من حقها؟ -أي: من حق لا إله إلا الله- والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، قال عمر رضي الله عنه: فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق] .
ثم وافق المسلمون ووافق الصحابة واجتمع رأيهم على قتال المرتدين، فقاتلوهم بأمر الله ورسوله.
ولما جاءت جدة تسأل الصديق قال: [لا أجد لك شيئاً في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سوف أسأل الناس عما جاء في السنة، فسأل الناس، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى لها بالسدس، فقضى لها بالسدس رضي الله عنه وأرضاه] .
وهكذا عمر لما أشكل عليه إملاص المرأة إذا خرج الجنين ميتاً، ما حكمه؟ توقف حتى سأل الناس، فشهد عنده محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة، فقضى بذلك.
ولما أشكل على عثمان عدة حكم المعتدة من الوفاة: هل تكون في بيت زوجها أو تنتقل إلى أهلها؟ شهدت عنده الفارعة بنت مالك الخدرية أخت أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيتها، فقضى بذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
ولما سمع علي رضي الله عنه عثمان في بعض حجاته ينهى عن المتعة ويأمر بإفراد الحج، أحرم علي رضي الله عنه بالحج والعمرة جميعاً، وقال: [لا أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس] .
ولما سمع ابن عباس بعض الناس ينكر عليه الفتوى بالمتعة، ويحتج عليه بقول أبي بكر وعمر أنهما يريان إفراد الحج؛ قال: [يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر!] .
ولما ذكر للإمام أحمد جماعة يتركون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان الثوري، ويسألونه عما لديه وعما يقول، فتعجب وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته -أي: عن الرسول صلى الله عليه وسلم- يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣] ! ولما ذكر عند أيوب رجل يدعو إلى القرآن ويثبط عن السنة قال: دعوه، فإنه ضال.
المقصود أن السلف الصالح قد عرفوا هذا الأمر، ونبغت عندهم نوابغ بسبب الخوارج في هذا الباب، فاشتد نكيرهم عليهم، وضللوهم وحذروا منهم، مع أنه إنكار غير الإنكار الموجود الأخير، إنكار له شبهة بالنسبة إلى الخوارج وما اعتقدوه في الصحابة في بعضهم دون بعض.
أما هؤلاء المتأخرون فجاءوا بداهية دهياء، ومنكر عظيم، وبلاء كبير، ومصيبة عظمى؛ حيث قالوا: إن السنة برمتها لا يحتج بها كلياً، لا من هنا ولا من هناك، وطعنوا فيها وفي رواتها وفي كتبها، وسار على هذا النهج وأعلنه كثيراً الرئيس القذافي المعروف، فضل وأضل، وهكذا جماعة في مصر وغير مصر، قالوا هذه المقالة؛ فضلوا وأضلوا، وسموا أنفسهم بالقرآنيين.
وقد جهلوا ما قام به علماء السنة، وقد احتاطوا كثيراً للسنة، تلقوها -أولاً- عن الصحابة حفظاً، ودرسوها وحفظوها حفظاً كاملاً دقيقاً حرفياً، ونقلوها إلى من بعدهم، ثم ألف العلماء في القرن الثاني، في رأس القرن الأول وفي أثناء القرن الثاني، ثم كثر ذلك في القرن الثالث؛ فقد ألفوا الكتب، وجمعوا فيها الأحاديث، حرصاً على بقائها وحفظها وصيانتها، فانتقلت من الصدور إلى الكتب المحفوظة المتداولة المتناقلة التي لا ريب فيها ولا شك، ثم نقبوا عن الرجال، وعرفوا ثقاتهم من كذابيهم من ضعفائهم، من شيئي الحفظ منهم، حتى حرروا ذلك أتم تحرير، وبينوا من يصلح للرواية ومن لا يصلح لها، ومن يحتج به ومن لا يحتج به، واعتنوا بما قد وقع من بعض الناس من أوهام وأغلاط سجلوها عليه، وعرفوا الكذابين والوضاعين، وألفوا فيهم وأوضحوا أسماءهم؛ فأيد الله بهم السنة، وأقام بهم الحجة، وقطع بهم المعذرة، وزال تلبيس الملبسين، وانكشف ضلال الضالين، فبقيت السنة بحمد الله جلية واضحة لا شبهة عليها ولا غبار.
وكان الأئمة يعظمون ذلك كثيراً، وإذا رأوا من أحدهم أي تساهل بالسنة أو إعراض أنكروا عليه، فقد حدث ذات يوم عبد الله بن عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فقال بعض أبنائه: والله لنمنعهن.
عن اجتهاد، ومقصوده أنهن تغيرن، وقد يتساهلن في الخروج، وليس قصده إنكار السنة، فأقبل عليه عبد الله وسبه سباً سيئاً، وقال: [أقول لك: قال رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن!] .
ورأى عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه بعض أقاربه يخذف، فقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال: إنه لا يصيد صيداً، ولا ينكأ عدواً، ثم رآه في وقت آخر يخذف، فقال: أقول لك: إن رسول الله نهى عن ذلك ثم تخذف، لا كلمتك أبداً) .
فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعظمون هذا الأمر جداً، ويحذرون الناس من التساهل بالسنة أو الإعراض عنها، أو الإنكار لها لرأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات.