هذه منزلة السنة ومكانتها من الإسلام، وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأنها حجة مستقلة قائمة بنفسها يجب الأخذ بها والرجوع إليها، وأنه متى صح السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب الأخذ به مطلقاً، ولا يجب ولا يشترط في ذلك أن يكون متواتراً أو مشهوراً أو مستفيضاً، أو بعدد كذا من الطرق، بل ولو بطريق واحدة، متى استقام الإسناد وجب الأخذ بالحديث مطلقاً، بسند واحد، أو بسندين، أو بثلاثة أو بأكثر؛ سواء سمي خبر تواتر أو خبر آحاد، لا فرق في ذلك، كلها حجة يجب الأخذ بها، مع اختلاف ما تقتضيه من العلم الضروري أو العلم النظري أو الظني، هذا أمر آخر لا يتعلق بالأخذ بها، بل هذا أمر يتعلق بالقلوب يختلف فيه الناس، لكن العمل بها واجب الاتباع، واجب الأخذ بها مطلقاً، متى صح الإسناد وجب الأخذ بذلك، وتحكيم ذلك، وترك ما خالف ذلك.
أما كونه متواتراً، أو كونه مشهوراً أو مستفيضاً، أو آحاداً غير مستفيض ولا مشهور، أو غريب، أو غير ذلك؛ هذه أشياء اصطلح عليها أهل السنة في أصول الحديث، وعرفوها في أصول الفقه أيضاً، وهذا يختلف بحسب اختلاف الناس في العلم، فإنه قد يكون هذا الحديث متواتراً عند زيد وعمرو وليس متواتراً عند خالد وبكر؛ لما بينهما من الفرق في العلم واتساع العلم، وقد يروي زيد حديثاً من عشر طرق، أو من ثمان أو من سبع أو من خمس أو ست، ويقطع بأنه متواتر؛ لما اتصل به رواته من العدالة والحفظ والإتقان والجلالة، وقد يروي الآخر حديثاً من عشرين سنداً، ولا يحصل له ما حصل لذاك من العلم اليقيني القطعي بأنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بأنه متواتر.
هذه أمور تختلف بحسب ما يحصل للناس من العلم بأحوال الرواة، وعدالتهم، ومنزلتهم في الإسلام، وصدقهم، وحفظهم، وغير ذلك، وهذا شيء يتفاوت فيه الرجال حسب ما أعطاهم الله من العلم بأحوال الحديث ورجاله، وصفاتهم، وطرق الحديث، إلى غير ذلك.
لكن أهل العلم أجمعوا على أنه متى صح السند وسلم من العلة وجب الأخذ به، وبينوا أن الإسناد الصحيح هو ما ينقله العدل الضابط عن مثله عن مثله عن مثله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من غير شذوذ ولا علة ولا انقطاع هذا متى جاء الحديث بهذا المعنى، متصلاً لا شذوذ فيه ولا علة؛ وجب الأخذ به والاحتجاج به على المسائل التي يتنازع فيها الناس؛ سواء حكمنا عليه بأنه غريب، أو عزيز، أو مشهور، أو متواتر، أو غير ذلك؛ إذ الاعتبار والحجة في استقامة السند وصلاحه وسلامته، تعددت أسانيده أو لم تتعدد.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعاً الفقه في دينه، وأن يرزقنا الاستقامة على ما يرضيه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه جل وعلا جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.