وَمِنْ سَبَقَ كَانَ أَوْلَى وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِأَنَّ السَّبَقَ لِلسَّجَّادَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ لِبَنِي آدَمَ فَيَقَعُ فِي الْغَصْبِ أَوَّلًا لِكَوْنِهِ مَنَعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِمَّنْ سَبَقَهُ، فَإِذَا جَاءَ كَانَ غَاصِبًا لِمَا زَادَ عَلَى مَوْضِعِ صَلَاتِهِ بَلْ غَاصِبًا لِلْمَوْضِعِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ فَيَكُونُ غَيْرُهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ هُوَ، فَلَمَّا أَنْ تَقَدَّمَ عَلَى مَنْ سَبَقَهُ كَانَ غَاصِبًا وَمِنْهَا تَخَطِّيهِ لِرِقَابِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ إتْيَانِهِ لِلسَّجَّادَةِ، وَقَدْ نَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَنَّهُ مُؤْذٍ وَنَهَى عَنْهُ «فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي دَخَلَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت» فَنَهَاهُ وَأَخْبَرَ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُؤْذٍ.
وَقَدْ وَرَدَ «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ» فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَيْضًا مِنْ نَصْبِ بِسَاطٍ كَبِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ لِكَيْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ هُوَ وَبَعْضُ خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ، ثُمَّ يَبْسُطُ عَلَى الْبِسَاطِ هَذِهِ السَّجَّادَةَ فَيُمْسِكُ فِي الْمَسْجِدِ مَوَاضِعَ كَثِيرَةً غَاصِبًا لَهَا فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخُيَلَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْأَعَاجِمِ أَوْ الْجُهَلَاءِ بِدِينِهِمْ لَوَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ تَحْذِيرُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَزَجْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ وَالْأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ أَوْ وَعْظُهُمْ إنْ كَانَ يَخَافُ شَوْكَتَهُمْ فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ الْعَالِمُ فِي نَفْسِهِ. كَانَ النَّاسُ يَقْتَبِسُونَ أَثَارَ الْعَالِمِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَرْجِعُونَ عَنْ عَوَائِدِهِمْ لِعَوَائِدِهِ فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ فَصَارَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ يُحْدِثُونَ أَشْيَاءَ مِثْلَ هَذَا وَغَيْرِهِ فَيُسْكَتُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَأْتِي الْعَالِمُ فَيَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي فِعْلِهِمْ فَكَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعُلَمَاءِ فَرَجَعْنَا نَقْتَدِي بِفِعْلِ الْجُهَلَاءِ، وَهَذَا الْبَابُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تُرِكَتْ مِنْهُ السُّنَنُ غَالِبًا أَعْنِي اتِّخَاذَ عَوَائِدَ يَقَعُ الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهَا وَيُمْشَى عَلَيْهَا فَيَنْشَأُ نَاسٌ عَلَيْهَا لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا وَيَتْرُكُونَ مَا وَرَاءَهَا، فَجَاءَ مَا قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيْلَكُمْ يَا مَعَاشِرَ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ الْجَهَلَةِ بِرَبِّهِمْ جَلَسْتُمْ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ تَدْعُونَ النَّاسَ إلَى النَّارِ بِأَعْمَالِكُمْ فَلَا أَنْتُمْ دَخَلْتُمْ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute