فَيَنْبَغِي لِهَذَا الْعَالِمِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ مِنْ أَنْ يُدَنِّسَهُ بِمُخَالَفَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ يَتَأَوَّلُهَا أَوْ يُبِيحُهَا أَوْ يَسْهُو عَنْ سُنَّةٍ أَوْ يَغْفُلُ عَنْهَا أَوْ يَتْرُكُ بِدْعَةً مَعَ رُؤْيَتِهَا بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا أَوْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ عِلْمِهِ لَا يَحُضُّ فِيهِ عَلَى السُّنَّةِ وَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِاجْتِنَابِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا انْعَقَدَتْ مَجَالِسُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانُوا يُكَرِّرُونَ مَجَالِسَهُمْ حِينَ كَانَتْ السُّنَنُ قَائِمَةً وَالْبِدَعُ خَامِدَةً فَكَيْفَ بِهِ الْيَوْمَ؟ .
وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ تَعَيَّنَ الْيَوْمَ عَلَى كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَضْلًا عَنْ مَسَائِلَ لِكَثْرَةِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَشَنَاعَتِهَا وَقُبْحِهَا إذْ أَنَّهَا كُلُّهَا صَارَتْ كَأَنَّهَا شَعَائِرُ الدِّينِ وَمِنْ الْأُمُورِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْنَا وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَقْوَالِنَا وَتَصَرُّفِنَا وَلَيْسَ لَنَا طَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ إلَّا مِنْ مَجَالِسِ عُلَمَائِنَا فَبَانَ مِنْ هَذَا أَتَمَّ بَيَانٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُتَعَيَّنٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُبَاشِرْ الْبِدَعَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَرَهَا.
أَمَّا مَعَ رُؤْيَتِهَا فَلَا يُمْكِنُ لِلْعَالِمِ تَرْكُهَا لِمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى حِينِ قَرَأَ الْقَارِئُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ١٠٥] فَقَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَأْخُذُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ الْمُنْكَرُ فَلَمْ تُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّ اللَّهُ الْكُلَّ بِعَذَابٍ» وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي التَّغْيِيرِ بِالْيَدِ ثُمَّ بِاللِّسَانِ ثُمَّ بِالْقَلْبِ عَلَى مَا مَرَّ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إنَّ التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَبِاللِّسَانِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَبِالْقَلْبِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَمَا قَالُوهُ هُوَ فِي غَالِبِ الْحَالِ، وَإِلَّا فَقَدْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُ يَتَعَيَّنُ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ عَلَى غَيْرِ الْأَمِيرِ وَغَيْرِ الْعَالِمِ فَضْلًا عَنْهُمَا.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْقَسِمُ التَّغْيِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَتَغَيَّرُ بِالْيَدِ، وَقِسْمٌ يَتَغَيَّرُ بِاللِّسَانِ، وَالشَّاذُّ النَّادِرُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute