للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أحدهما أن يفعل الأعظم في غير الناهي، ثانيهما أن يفعله في الناهي، فالأول اتفق الناس على أنه يحرم النهي عن المنكر فيه. والثاني اختلفوا فيه فمنهم من سواه بالأول نظرا لعظم المفسدة ومنهم من فوق، وقال: والتغرير بالنفوس مشروع في الطاعة لقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، مدحهم بأنهم قتلوا بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله تعالى وما ضعفوا وما استكانوا، وهو يدل على أن بذل النفوس في الطاعة مأمور به، وقتل يحيى بن زكريا بنهيه عن تزويج الربيبة، وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (١))، ومعلوم أنه عرض نفسه للقتل بمجرد هذه الكلمة فجعله أفضل الجهاد، ولم يفرق بين كلمة وكلمة كانت في الأصول أو في الفروع من الصغائر أو من الكبائر، فظهر أن المفسدة العظمى إنما تقع إذا كانت من غير هذا القبيل وأما هذا فلا.

الرابع: يجب على الآمر بالمعروف أن يكون أمره بمعروف أي رفق، لقوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: من كانءامرا بمعروف فليكن أمره ذلك بمعروف،

وقوله: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف (٢))، وقد يقع الغلط في هذا المقام بأن يكون الرفق من مداهنة وخوف وحشة أو نفرة مؤثرة في مال أو جاه، فيلتبس المذموم بالمحمود فلينتبه لذلك وليبالغ في الرفق حتى كأنه عبد يأمر ابنَ سيِّده ويتم له ذلك بأن لا ينظر إلى المأمور نظر عداوة بل نظر ترحم عليه، ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه؛ إذ المسلمون كنفس واحدة ولا يراعي فيه جانب المعصية بل يلاحظ حرمة إيمانه وغيره من الطاعات التي تصدر منه، ولله در الإمام الشاذلي رضي الله تعالى عنه حيث يقول: أكرم المؤمنين وإن كانوا عصاة فاسقين وأمُرْهم بالمعروف وانهَهُم عن المنكر واهْجرهم رحمة بهم لا تعززا عليهم، وقد قال رضي الله تعالى عنه: لو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق ما بين السماء والأرض، فما ظنك بنور المؤمن المطيع؟ انتهى. ولما ينظر إليه بما تقتضيه الشريعة فقط، بل ينظر إليه مع ذلك بعين الحقيقة ليعذره، وإن أدى الأمر إلى ضربه أو غيره كشتمه فعل ذلك، وفعله ذلك لا ينافي الرفق


(١) الإتحاف ج ٧ ص ٦٤.
(٢) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، رقم الحديث، ٢٥٩٣.