للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن أصرح الأدلة وأوضحها في إثبات علو الله تعالى حديث الجارية، إلَّا أن القرطبي - رحمه الله - تكلَّف في تأويله وأجهد نفسه في ذلك، ويتضح هذا من خلال كلامه عليه حيث قال: "قوله - صلى الله عليه وسلم - للجارية: "أين الله؟ " (١) هذا السؤال من النبي - صلى الله عليه وسلم - تنزل مع الجارية على قدر فهمها إذ أراد أن يُظهر منها ما يدل على أنها ليست ممن يعبد الأصنام ولا الحجارة التي في الأرض، فأجابت بذلك، وكأنها قالت: إن الله ليس من جنس ما يكون في الأرض و"أين" ظرف يسأل به عن المكان ... وهو لا يصح إطلاقه على الله تعالى بالحقيقة إذ الله تعالى منزه عن المكان كما هو منزه عن الزمان، بل هو خالق الزمان والمكان، ولم يزل موجودًا ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، ولو كان قابلًا للمكان لكان مختصًّا به، ويحتاج إلى مخصص، ولكان فيه إما متحركًا وإما ساكنًا، وهما أمران حادثان، وما يتصف بالحوادث حادث، ولما صدق قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (٢) إذ كانت تماثله الكائنات في أحكامها، والممكنات في إمكانها، وإذا ثبت ذلك ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أطلقه على الله بالتوسع والمجاز لضرورة إفهام المخاطبة القاصرة الفهم الناشئة مع قوم معبوداتهم في بيوتهم فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعرف منها هل هي ممن يعتقد أن معبوده في بيت الأصنام أم لا؟ فقال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقنع منها بذلك، وحكم بإيمانها إذ لم تتمكن من فهم غير ذلك، وإذ نزهت الله تعالى عن أن يكون من قبيل معبوداتهم وأصنامهم ورفعته عن أن يكون في مثل أمكنتهم، وحملها على ذلك أنها رأت المسلمين يرمقون


(١) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة ح (٥٣٧) (٥/ ٢٣).
(٢) سورة الشورى، آية: ١١.

<<  <   >  >>