للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال ابن القيم: "إن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهكذا، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدَّر حصول الزرع بالبذر ... فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدَّر وقوع المدعو به بالدعاء لا يصح أن يُقال لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال لا فائدة في الأكل والشرب، وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب" (١).

وهذا هو الذي قرَّره القرطبي، فردَّ على المعتزلة والصوفية فيما ذهبوا إليه في مسألة الدعاء إذ قال عند شرحه لحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي دعا فيه عليه السلام بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة (٢): "هذا وما في معناه من أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تفوق الحصر حجة على بعض المعتزلة القائلين: لا فائدة في الدعاء مع سابق القدر، وعلى غلاة الصوفية القائلين: إن الدعاء قادح في التوكل، وهذه كلها جهالات لا ينتحلها إلَّا جاهل لظهور فسادها وقبح ما يلزم عليها" (٣).

[المطلب الرابع: الاحتجاج بالقدر على المعاصي]

إن الاحتجاج بقدر الله تعالى على الوقوع في المعاصي، واقتراف المنكرات مذهب باطلٌ شرعًا وعقلًا، وهو حجة المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا


(١) الجواب الكافي ص (٩).
(٢) رواه البخاري في كتاب فضائل المدينة باب (١٢) ح (١٨٨٩) (٤/ ١١٩) ومسلم في كتاب الحج باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها ح (١٣٧٦) (٩/ ١٥٨).
(٣) المفهم (٣/ ٤٩٣).

<<  <   >  >>