وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَغْرِبِ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ صَارَ الْحُكَّامُ مِنْهُمْ، وَصَارَتْ الْخَطَابَةُ فِيهِمْ، وَشُهُودُ الْبَلَدِ مِنْهُمْ، وَعَامَّتُهَا وَسُكَّانُ ضَوَاحِيهَا وَأَهْلُ بَادِيَتِهَا كُلُّهُمْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ، يَوْمَئِذٍ عَدَدُهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا مُسْتَضْعَفُونَ بَيْنَهُمْ، إلَّا أَنَّ إمَامَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ مُضَافَةً إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَبَعَثَ سُلْطَانُ مِصْرَ إلَى الْمَدِينَةِ حَاكِمًا شَافِعِيًّا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَأُضِيفَتْ إلَيْهِ الْخَطَابَةُ وَالْإِمَامَةُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْعِهِمْ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَكَانَتْ جُلُّ الْحُكُومَاتِ رَاجِعَةً إلَيْهِمْ، وَلَمْ تَزَلْ أَحْكَامُهُمْ نَافِذَةً إلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَمَنَعَهُمْ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْحُكْمِ بِقِيَامِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الْهُورِينِيِّ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ فَانْقَطَعَتْ أَحْكَامُهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا هُمْ غَالِبُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَكَثِيرٌ مِنْ نَوَاحِيهَا لَا يَسْكُنُهَا غَيْرُهُمْ، وَجَمِيعُ عَامَّتِهَا وَسُوقَتِهَا وَأَرْبَابِ الْحِرَفِ وَأَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْفَلَّاحِينَ، كُلُّهُمْ يَشْهَدُونَ وَلَيْسَ لَهُمْ عُدُولٌ يُقْصَدُونَ لِلشَّهَادَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكَذَا جَمِيعُ عَوَامِّ أَهْلِ السُّنَّةِ يَشْهَدُونَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْحُكَّامِ أَمَانٌ لَا يَشْهَدُ فِي الْبَلَدِ إلَّا الْعُدُولُ، فَهُمْ إلَى الْآنَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَسَأَلْت بَعْضَ حُكَّامِهِمْ عَنْ الْمُسَوِّغِ لِقَبُولِ شَهَادَةِ عَامَّةِ الْبَلَدِ، وَمَا حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ؟ فَذَكَرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ: أَنَّ النَّاسَ مَحْمُولُونَ عَنْ الْجُرْحَةِ حَتَّى تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ، وَأَنَّ هَذَا الْفَسَادَ وَالتَّسَاهُلَ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْبَلَدَ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَانُونٌ وَلَا ضَابِطٌ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِيهَا كَأَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَأَنَّ إهْمَالَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِ أُمَرَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَشْرَافِهَا، فَإِنَّا لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ مِنْ الْأُمَرَاءِ إنْكَارَ التَّعَرُّضِ لِإِنْكَارِ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ شُهُودُ الْبَلَدِ مِنْهُمْ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ شَهَادَتِهِمْ.
الثَّانِي: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ اعْتِمَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فِي شَهَادَتِهِمْ.
الثَّالِثُ: فِي أَقْضِيَةِ حُكَّامِهِمْ وَالشَّهَادَةِ عَلَى خُطُوطِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute