للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ الْخِلَافُ فِي تَحْقِيقِهِ، هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ أَنَّ عُرْفَنَا الْيَوْمَ لَيْسَ فِيهِ الْحَلِفُ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَلَا يَكَادُ نَجِدُ أَحَدًا بِمِصْرَ يَحْلِفُ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي الْفُتْيَا بِهِ، وَعَادَتُهُمْ يَقُولُونَ: عَبْدِي وَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَعَلَى الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ وَمَالِي صَدَقَةٌ إذَا لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَتَلْزَمُ هَذِهِ الْأُمُورُ.

وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ تُرَاعَى الْفَتَاوَى عَلَى طُولِ الْأَيَّامِ، مَهْمَا تَجَدَّدَ فِي الْعُرْفِ اعْتَبَرَهُ، وَمَهْمَا سَقَطَ أَسْقَطَهُ وَلَا تَحْمِلْ عَلَى الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك، بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك فَلَا تُجِبْهُ عَلَى عُرْفِ بَلَدِك، وَاسْأَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَأَجْرِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَالْمُقَرَّرِ فِي كُتُبِك، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ، وَالْجَرْيُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةُ يَتَخَرَّجُ أَيْمَانُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقُ وَصِيَغُ الصَّرَائِحِ وَالْكِنَايَاتِ، فَقَدْ تَصِيرُ الصَّرَائِحُ كِنَايَاتٍ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَقَدْ تَصِيرُ الْكِنَايَاتُ صَرَائِحَ مُسْتَغْنِيَةً عَنْ النِّيَّةِ.

فَرْعٌ: فَلَوْ قَالَ: أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي، فَإِنَّهَا تَتَخَرَّجُ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْحَلِفِ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُعَاصِرَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مَلِكِ الْوَقْتِ فِي التَّحْلِيفِ بِهِ فِي بَيْعَتِهِمْ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ بِحَيْثُ صَارَ عُرْفًا وَمَنْقُولًا مُتَبَادِرًا لِلذِّهْنِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ حُمِلَ يَمِينُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ أَوْ بِسَاطُ يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ، فِي السُّؤَالِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ، وَمَا الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْوَاقِعَةِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْعَوَائِدِ؟ وَالْعُرْفِ اللَّذَيْنِ كَانَا حَاصِلَيْنِ حَالَةَ جَزْمِ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَهَلْ إذَا تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعَوَائِدُ وَصَارَتْ تَدُلُّ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَهَلْ تَبْطُلُ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْمَسْطُورَةُ فِي الْكُتُبِ وَيُفْتَى بِمَا تَقْتَضِيهِ الْعَوَائِدُ الْمُتَجَدِّدَةُ؟ أَوْ يُقَالُ: نَحْنُ مُقَلِّدُونَ وَمَا لَنَا إحْدَاثُ شَرْعٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِنَا لِلِاجْتِهَادِ؟ فَنُفْتِي بِمَا فِي الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَرْيَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي مُدْرَكُهَا الْعَوَائِدُ، مَعَ تَغْيِيرِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَجَهَالَةٌ فِي الدِّينِ، بَلْ كُلُّ مَا هُوَ فِي الشَّرِيعَةِ يَتْبَعُ الْعَوَائِدَ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْعَادَةِ إلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَجْدِيدًا لِلِاجْتِهَادِ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ حَتَّى يُشْتَرَطَ

<<  <  ج: ص:  >  >>