للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلَا نَشُكُّ أَنَّ قُضَاةَ زَمَانِنَا وَشُهُودَهُمْ وَوُلَاتَهُمْ وَأُمَنَاؤُهُمْ، لَوْ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَا وَلُوا وَلَا عُرِّجَ عَلَيْهِمْ، وَوِلَايَةُ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فُسُوقٌ فَإِنَّ خِيَارَ زَمَانِنَا هُمْ أَرَاذِلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَوِلَايَةُ الْأَرَاذِلِ فُسُوقٌ، فَقَدْ حَسُنَ مَا كَانَ قَبِيحًا، وَاتَّسَعَ مَا كَانَ ضَيِّقًا، وَاخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ.

وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، إذْ الشَّرْعُ وَسَّعَ لِلْمُرْضِعِ فِي النَّجَاسَةِ اللَّاحِقَةِ لَهَا مِنْ الصَّغِيرِ، مِمَّا لَمْ نُشَاهِدْهُ كَثَوْبِ الْإِرْضَاعِ، وَوَسَّعَ فِي زَمَانِ الْمَطَرِ فِي الطِّينِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْقَذِرِ وَالنَّجَاسَةِ وَوَسَّعَ لِأَصْحَابِ الْقُرُوحِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجَاسَتِهَا، وَوَسَّعَ لِلْغَازِي فِي بَوْلِ فَرَسِهِ، وَوَسَّعَ لِصَاحِبِ الْبَوَاسِيرِ فِي بَلَلِهَا، وَجَوَّزَ الشَّارِعُ تَرْكَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا إذَا ضَاقَ الْحَالُ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا ضَاقَ شَيْءٌ إلَّا اتَّسَعَ

يُشِيرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا ضَاقَ عَلَيْنَا الْحَالُ فِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ، اتَّسَعَ كَمَا اتَّسَعَ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ.

وَسَادِسُهَا: أَنَّ أَوَّلَ بَدْءِ الْإِنْسَانِ فِي زَمَنِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ الْحَالُ ضَعِيفًا، فَأُبِيحَتْ الْأُخْتُ لِأَخِيهَا، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا، فَلَمَّا اتَّسَعَ الْحَالُ وَكَثُرَتْ الذُّرِّيَّةُ حَرُمَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَحَرُمَ السَّبْتُ وَالشُّحُومُ وَالْإِبِلُ وَأُمُورٌ كَثِيرَةٌ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً.

وَتَوْبَةُ أَحَدِهِمْ بِالْقَتْلِ لِنَفْسِهِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِقَطْعِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْدِيدَاتِ، ثُمَّ جَاءَ آخِرُ الزَّمَانِ فَضَعُفَ الْجَسَدُ وَقَلَّ الْجَلَدُ، فَلَطَفَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ فَأُحِلَّتْ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ، وَخُفِّفَتْ الصَّلَوَاتُ، وَقُبِلَتْ التَّوْبَاتُ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْأَحْكَامَ وَالشَّرَائِعَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعِبَادِهِ وَسُنَّتِهِ الْجَارِيَةِ فِي خَلْقِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْقَوَانِينَ لَا تَخْرُجُ عَنْ أُصُولِ الْقَوَاعِدِ، وَلَيْسَتْ بِدْعًا عَمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الْمُكَرَّمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>