للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَوْلُ الْوَاحِدُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَاسْتَمَرَّ بِهِ الْحُكْمُ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ ذِكْرِ مَنْ جَرَى الْعَمَلُ بِاخْتِيَارِهِ فَهَلْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ التَّرْجِيحِ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمْ لَا، هَذَا كُلُّهُ وَقَعَ فِي الْجَوَابِ حِكَايَةً لِقَوْلِ السَّائِلِ، ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ ذَلِكَ وَتَكَلَّمَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَصِفَتِهِ وَطَرِيقَتِهِ فِي الْفَتْوَى ثُمَّ قَالَ: وَتَقَرَّرَ هُنَا أَصْلًا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ قِسْمَانِ: مُجْتَهِدٌ وَغَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فَتَكَلَّمَ عَلَى شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ السُّؤَالُ عَنْهُ فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِأَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ أَهْلًا لِابْتِدَاعِهَا وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ مَأْخَذِهَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ الْعُدُولِ، فَنَزَّلَ الشَّرْعُ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّهِ كَظَنِّهِ لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا لِضَرُورَةِ الْعَمَلِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.

وَاَلَّذِي يَجِبُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى التَّارِيخِ فَيَعْمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ، فَإِذَا الْتَبَسَ التَّارِيخُ عَلَيْهِ يَعْنِي، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا يُفْتِي فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ إلَّا مَنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ كَمُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ، وَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إذَا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ التَّارِيخُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فَهُمْ يَعْرِفُونَ أُصُولَ مَنْ اجْتَهَدُوا فِي مَذْهَبِهِ وَمَأْخَذِهِ وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ، فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ، لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْمَذْهَبِ وَمَأْخَذِهِ وَمَعْرِفَتِهِمْ أَنَّ أَحَدَ الْمَأْخَذَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ الْآخَرِ، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمَأْخَذُ هُوَ الرَّاجِحُ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ، وَرَأَى قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، وَرِوَايَةَ غَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْزِمَ بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ الْمُتَأَخِّرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَ: وَكَانَ شَيْخُنَا شَمْسُ الدِّينِ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَنْبَارِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يُرَجِّحُ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَيَرَى أَنَّهُ الْمُتَأَخِّرُ إلَّا فِيمَا شَذَّ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى مَذْهَبِ شَيْخِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ نَقُولَ: الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَذْهَبِ وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ هُنَا مَثَلًا بِمَنْزِلَةِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ وَنُقِلَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْآحَادِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ فَيُنْسَخُ الْمُتَقَدِّمُ وَصَارَ النَّسْخُ هُنَا ظَاهِرًا بِالظَّنِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذَا مَعْلُومٌ فَلَمَّا الْتَبَسَ بَعْدَهُ اكْتَفَى فِي التَّعْيِينِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالْمَطْلُوبُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ. وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>