للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ فِي الْعُقُوبَةِ بِالسِّجْنِ وَذِكْرِ حَقِيقَتِهِ وَعَلَى مَنْ يَتَوَجَّهُ وَقَدْرِ مُدَّتِهِ

فَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ السِّجْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَصْرِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ٨] أَيْ سِجْنًا وَحَبْسًا، قَالَ: وَالسِّجْنُ وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ الْعُقُوبَاتِ فَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: ٢٥] ، أَنَّ السِّجْنَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَرَنَهُ مَعَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقَدْ وَعَدَ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الِانْطِلَاقَ مِنْ السِّجْنِ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: ١٠٠] وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّجْنَ الطَّوِيلَ عَذَابٌ.

وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ إذْ أَوْعَدَ مُوسَى {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: ٢٩] وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ابْنَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَوْصَاهُ أَنْ لَا يُعَاقِبَ فِي حِينِ الْغَضَبِ، وَحَضَّهُ عَلَى أَنْ يَسْجُنَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ ثُمَّ يَرَى رَأْيَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ كَانَ حَلِيمًا، وَلَمْ يُرِدْ مَرْوَانُ طُولَ السَّجْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ السَّجْنَ الْخَفِيفَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ.

وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ هُوَ السَّجْنُ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ كَانَ بِتَوَكُّلِ نَفْسِ الْغَرِيمِ أَوْ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ وَمُلَازَمَتِهِ لَهُ، وَلِهَذَا أَسْمَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسِيرًا، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَرِيمٍ لِي فَقَالَ لِي: الْزَمْهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِك» ؟ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: «مَرَّ بِي آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَسِيرُك يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ» ؟ وَهَذَا كَانَ هُوَ الْحَبْسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَكُنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>