للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كفر بعد الإيمان؛ فإنَّه يُستتابُ، فإن تاب وإِلَّا قُتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ بدَّلَ دينَه فاقتلوه)) (١).

فعُلم مما تقدَّم أَنَّ الآيةَ محكمةٌ عامَّةٌ وإن نزلت على سببٍ، فإِنَّ العبرةَ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأَكثرُ العلماء من المفسرين وغيرهم يرون أَنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ بآية السيف (٢)؛ وهي آياتُ الأَمر بقتال الكفار من أَهل الكتاب والمشركين، وهذا يقتضي أنهم يَعدُّون القتالَ إِكراهًا، وهذا لا يستقيمُ في قتال أهل الكتاب، وهم يُخيَّرون بين الإسلام وإِعطاءِ الجزيةِ وهذا بالإجماع (٣)، وكذا قتالُ غيرِهم؛ لا يُعَدُّ إِكراهًا -على القول بأَخذ الجزية من غير أَهل الكتاب- فإنَّه لا يجتمعُ الإِكراهُ مع التخيير.

وقولُه تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}: أَي: قد تميَّزَ سبيلُ الرُّشد عن سبيل الغيِّ، والرُّشدُ: هو العلمُ بالحقِّ واتباعِه، والغيُّ ضِدُّه؛ وهو: الجهلُ بالحقِّ واتباعُ الباطل، فتميَّز الحقُّ من الباطل والهدى من الضَّلال، وهذا التميز إنما حصل بتبيين الله وتبيين رسوله بالآيات الكونية والآيات القرآنية وبالأحاديث النبوية، قال تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُون (١٢٦)} [الأنعام: ١٢٦]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (٥٢)} [الشورى: ٥٢]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: ٤].

وقولُه تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ}: أَي: يجحدُ عبادةَ كلِّ ما يُعبَدُ من دون الله، ويؤمنُ بالله ربًّا وإلهًا، وهذا هو معنى: لا إله إلا الله، فما فيها من النفي هو معنى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}، وما فيها من الإثبات هو معنى: {وَيُؤْمِن بِاللّهِ}؛ ولهذا قال: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}؛ وهي: لا


(١) أخرجه البخاري (٣٠١٧) و (٦٩٢٢)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) ينظر: «الناسخ والمنسوخ» لأبي عبيد (ص ٢٨١ - ٢٨٢)، و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ٢٥٨ - ٢٦٠)، و «نواسخ القرآن» لابن الجوزي (ص ٥٣ - ٥٥).
(٣) ينظر: «مراتب الإجماع» (ص ١٩٦)، و «الإقناع في مسائل الإجماع» (١/ ٣٥٢)، و «موسوعة الإجماع» (٦/ ٢٧٧ - ٢٨٠).

<<  <   >  >>