للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المبحث السابع: وجوب الحج على الفور]

من كملت له شروط وجوب الحج وجب عليه أن يحج على الفور ولم يجز له تأخيره، ويأثم إن أخَّره بلا عُذرٍ؛ لحديث ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له))، وهذا لفظ أحمد، ولفظ أبي داود: ((من أراد الحجّ فليتعجّل) ولفظ ابن ماجه: ((من أراد الحجَّ فليتعجَّل، فإنه قد يمرض المريض، وتضلُّ الدّابّة، وتعرض الحاجة)) (١).

فأمر بالتعجيل والأمر يقتضي الإيجاب (٢)؛ ولهذا ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ((لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين)) (٣)، وفي رواية أنه قال: ليمت يهودياً أو نصرانياً - يقولها ثلاث مرات - رجل مات ولم يحج، ووجد لذلك سَعَة، وخُلِّيت سبيله (٤)، فإذا وجدت هذه الشروط في شخص فقد وجب عليه الحج (٥).


(١) مسند أحمد، ٥/ ٥٨، برقم ٢٨٦٧، ورقم ١٨٣٣،وأبو داود، كتاب المناسك، بابٌ، برقم ١٧٣٢، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الخروج إلى الحج، برقم ٢٨٨٣،وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٣٢٥،وفي صحيح سنن ابن ماجه،٣/ ٥،وفي إرواء الغليل، ٤/ ١٦٨.
(٢) انظر: شرح العمدة في مناسك الحج والعمرة لابن تيمية، ١/ ٢٠٦، ومجموع فتاوى ابن باز في الحج، ٥/ ٢٤٣، والمغني لابن قدامة، ٥/ ٣٦، وأضواء البيان، للشنقيطي، ٥/ ١٢٥.
(٣) رواه سعيد ابن منصور في سننه، وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير موقوفاً، ٢/ ٢٢٣.
(٤) رواه البيهقي في السنن الكبرى،٤/ ٣٣٤،وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير موقوفاً، ٢/ ٢٢٣.
(٥) اختلف العلماء رحمهم اللَّه تعالى هل الحج يجب إذا اكتملت الشروط على الفور أم على التراخي فيجوز تأخيره إلى وقت آخر؟ على قولين:
القول الأول: قول الجمهور: وهو أن الحج يجب على الفور إذا اكتملت شروط وجوبه، قال الإمام ابن قدامة في المغني، ٥/ ٣٦: ((وجملة ذلك أن من وجب عليه الحجُّ وأمكنه فعله وجب عليه على الفور، ولم يجز له تأخيره، وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك)).
واستدل الجمهور على وجوب الحج على الفور بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [سورة آل عمران، الآية: ٩٧]، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس قد فرض اللَّه عليكم الحج فحجُّوا ... )) [مسلم، برقم ١٣٣٧]، والأصل في الأمر أن يكون على الفور؛ ولهذا غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية عندما أمر أصحابه بالحلق والإحلال وتباطؤوا [انظر: صحيح البخاري، برقم ٢٧٣١، ٢٧٣٢]، وقد جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعجل إلى الحج، فقال: ((تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) [أحمد، برقم٢٨٦٧، وأبو داود، برقم ١٧٣٢، وابن ماجه، برقم ٢٨٨٣، وصححه الألباني، وتقدم تخريجه]، فأمر بالتعجيل والأمر يقتضي الإيجاب، ولأن اللَّه أمر بالاستباق إلى الخيرات فقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ... } [البقرة: ١٤٨] والتأخير خلاف ما أمر به.
وهذا هو الصواب: وهو أن الحج يجب على الفور؛ لما تقدم، وقد رجحه شيخنا ابن باز: وأن الحج يجب على الفور في أصح قولي العلماء [مجموع الفتاوى لابن باز، ١٦/ ٣٠، ١٢١، ٣٤٨، ٣٥٣، ٣٥٨]، وكذا قال ابن عثيمين في الشرح الممتع، ٧/ ١٦: ((الصواب أنه واجب على الفور))، وهو مذهب الحنابلة، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، وهو قول الجمهور.
القول الثاني: أن الحج يجب وجوباً موسعاً: أي على التراخي، وله تأخيره، وهو قول الشافعي رحمه اللَّه، واحتجوا بالقياس على الصلاة في الوقت: إن شئت صلها في أوله، أو في آخره، والعمر هو وقت الحج، فإن شاء حج أول العمر أو آخره، واحتجوا أيضاً بأن اللَّه فرض الحج في السنة السادسة بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله} [البقرة: ١٩٦]، ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في السنة العاشرة.
ولكن الصحيح أنه يجب على الفور؛ للأدلة السابقة في قول الجمهور، وأما القول: إن عمر الإنسان كله وقت للحج، فهذا صحيح، لكن جاءت الأدلة بالأمر بالتعجيل؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله} فهذا ليس أمراً بهما ابتداءً، ولكنه أمر بالإتمام بعد الشروع فيهما، وأما فرض الحج فالصواب أنه فرض في السنة التاسعة، ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في العاشرة؛ لكثرة الوفود عليه في تلك السنة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. [انظر: المغني لابن قدامة، ٥/ ٣٦ - ٣٧، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، ٨/ ٥٠ - ٥١، وشرح العمدة لابن تيمية، ١/ ١٩٨ - ٢٢٩، والشرح الممتع لابن عثيمين، ٧/ ١٨، والفروع لابن مفلح، ٥/ ٢٥١ - ٢٥٤، والروض المربع المحقق، ٥/ ١٨]. قال العلامة الشنقيطي رحمه اللَّه تعالى: ((اختلف أهل العلم في ذلك، وسنبين هنا إن شاء اللَّه أقوالهم، وحججهم، وما يرجحه الدليل عندنا من ذلك:
فممن قال: إن وجوبه على التراخي: الشافعي وأصحابه، قال النووي: وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن، ونقله الماوردي عن ابن عباس، وأنس، وجابر، وعطاء، وطاوس.
وممن قال إنه على الفور: الإمام أحمد، وأبو يوسف، وجمهور أصحاب أبي حنيفة، والمزني ...
أما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران كلاهما شهره بعض علماء المالكية: أحدهما أنه على الفور، والثاني أنه على التراخي ... )). ثم ذكر رحمه اللَّه أدلة كل فريق بالتفصيل، ثم بيّن ما ردَّ به كل فريقٍ على من خالفه، ثم قال رحمه اللَّه: ((أظهر القولين عندي وأليقهما بعظمة خالق السموات والأرض: هو وجوب أوامره جل وعلا كالحج على الفور، لا على التراخي؛ لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة، وللخوف من مباغتة الموت كقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران، الآية: ١٣٣]، ولما قدمنا معها من الآيات، وكقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّه مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف، الآية: ١٨٥]، ولما قدمنا من أن الشرع، واللغة، والعقل كلها تدل على أن أوامر اللَّه تجب على الفور، وقد بيّنا أوجه الجواب عن كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يحجّ حجّة الإسلام إلا سنة عشر، والعلم عند اللَّه تعالى)) [أضواء البيان، ٥/ ١٠٨، ١٢٥].

<<  <   >  >>