للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المبحث الثلاثون: المبيت بمزدلفة]

أولاً: إذا وصل الحاج إلى مزدلفة (١) صلى بها المغرب ثلاث


(١) اختلف العلماء رحمهم اللَّه في حكم المبيت في مزدلفة إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، من تركه جبر بدم، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: الإمام مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، والشافعي في المشهور عنه، وعطاء، والزهري، وقتادة، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور، وجماهير العلماء من السلف والخلف، واستدل هؤلاء العلماء على ذلك بحديث عبد الرحمن بن يعمر، وفيه: (( ... الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تمّ حجه)) [رواه أهل السنن الأربعة، وأحمد، وتقدم تخريجه]. ومعلوم أن هذا الواقف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر قد فاته المبيت بمزدلفة قطعاً بلا شك، ومع ذلك فقد صرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور بأن حجه تام، وحجة الجمهور بأن من ترك المبيت بمزدلفة فعليه دم أثر ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال: ((من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً)) [مالك في الموطأ، ١/ ٤١٩، والدارقطني، ٢/ ٢٤٤، والبيهقي، ٥/ ١٥٢].
والمبيت بمزدلفة نسك. وهذا القول هو الصواب الذي لا شك فيه.
القول الثاني: قول من قال: بأن المبيت بمزدلفة ركن لا يتم الحج إلا به، وبه قال خمسة من التابعين، وهم: علقمة، والنخعي، والشعبي، والأسود، والحسن البصري، وهم من أئمة التابعين، وممن قال به: بعض الشافعية.
قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد، ٢/ ٢٥٣: ((وهو مذهب اثنين من الصحابة: ابن عباس، وابن الزبير رضي اللَّه عنهما، وإليه ذهب إبراهيم النخعي، والشعبي، وعلقمة، والحسن البصري، وهو مذهب الأوزاعي، وحماد بن أبي سليمان، وداود الظاهري، وأبي عبيد القاسم بن سلاَّم، واختاره المحمدان: ابن جرير، وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية ... ))، واحتجّوا بثلاث حجج، على النحو الآتي:
١ - قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّه عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٩٨]، قالوا: فهذا الأمر القرآني الصريح يدل على أنه لا بد من ذكر اللَّه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفة.
٢ - حديث عروة بن مضرِّس، وفيه: (( ... من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه)). [أهل السنن وغيرهم، وتقدم تخريجه]. فقالوا: قوله: ((من شهد صلاتنا)) يفهم منه أن من لم يدرك الصلاة معهم لم يتم حجه، ولم يقض تفثه، والمراد بها صلاة الصبح بالمزدلفة، كما هو واضح. واستدلوا برواية أخرى لهذا الحديث عند أبي يعلى، ٢/ ٢٤٥: ((ومن لم يدرك جمعاً فلا حج له))، ولكنها لم تثبت. واستدلوا برواية أخرى نسبها الحافظ للنسائي، برقم ٤٠٣٠: ((من أدرك جمعاً مع الإمام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك)). فتح الباري، ٣/ ٥٢٩. [وقد صححها الألباني في صحيح سنن النسائي، ٢/ ٣٥١].
٣ - فعل رسول اللَّه الذي خرج مخرج البيان لهذا الذكر المأمور به، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لتأخذوا
مناسككم ... )) [مسلم، برقم ١٢٩٧].
وأجاب الجمهور القائلون أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم، وليس بركن، عن أدلة هؤلاء القائلين: إنه ركن لا يتمم الحج إلا به بما يأتي:
" قالوا: أما الآية التي استُدل بها على أن المبيت بمزدلفة ركن، وهي قول اللَّه تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّه عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فإنها لم تتعرض للوقوف بمزدلفة أصلاً، وإنما أمر فيها بذكر اللَّه عند المشعر الحرام، قالوا: وقد أجمعوا كلهم على أن من وقف بمزدلفة ولم يذكر اللَّه أن حجه تام.
" وأما رواية النسائي، برقم ٣٠٤٠، (( ... ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك))، وفي لفظ أبي يعلى: ((ومن لم يدرك جمعاً فلا حج له)) أنها من رواية مطرف عن الشعبي عن عروة، وأن مطرفاً كان يهم في المتون، وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم أن من لم يصلِّ صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام أن الحج يفوته، التزاماً لما ألزمه به الطحاوي، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه، فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه الطحاوي)). وقد صحح الألباني رواية النسائي في صحيح سنن النسائي، ٢/ ٣٥١، وسمعت شيخنا ابن باز رحمه اللَّه يقول أثناء تقريره على سنن النسائي، الحديث رقم ٣٠٤٠: ((أي لم يدرك الأكمل، والمزدلفة فيها أقوال ثلاثة: الوقوف بها واجب، وقيل: سنة، وقيل: ركن، والصواب الأول، وأن المبيت بمزدلفة واجب، أما من وقف بعرفة قبل صلاة الفجر فقد أدرك الحج)).
وقد ذكر العلامة الألباني زيادة أبي يعلى في إرواء الغليل، ٤/ ٢٥٩، ثم قال: ((وأنا أظن أنها مدرجة من كلام الشعبي، فقد زاد الدارقطني عقب الحديث في رواية له: ((قال الشعبي: ومن لم يقف بجمع جعلها عمرة)). [وانظر: أضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ٢٧٠]، ثم نقل الشنقيطي رحمه اللَّه تضعيف زيادة أبي يعلى عن الإمام النووي في شرح المهذب، [أضواء البيان، ٥/ ٢٧١].
" وقال الجمهور على الاستدلال الثالث لمن قال: إن المبيت بمزدلفة ركن، فقال الجمهور: أما الاستدلال بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: ((لتأخذوا مناسككم ... ))، فلم نخالف أنه نسك ينبغي أن يؤخذ عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولكن صحة الحج بدونه علمت بدليل آخر، وهو حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي المذكور سابقاً، الدال على عدم اشتراط المبيت بمزدلفة [أضواء البيان، ٥/ ٢٧١].
القول الثالث: المبيت بمزدلفة سنة، وبه قال بعض الشافعية، وذكر النووي أن هذا القول مشهور أيضاً، لكن قولهم الأول مع الجمهور أصح منه، وعن عطاء، والأوزاعي: أنها منزل من شاء نزل به، ومن شاء لم ينزل به. [ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، ٣/ ٥٢٩]
وحجة من قال: بأن المبيت بمزدلفة: سنة وليس بركن ولا واجب، هي: أنه مبيت، فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة، أي الليلة التاسعة التي صبيحتها يوم عرفة [أضواء البيان، ٥/ ٢٧١].
والصواب قول الجمهور؛ لما تقدم من أدلتهم الصحيحة الصريحة، وأن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، من تركه جبر ذلك بدم. قال شيخنا ابن باز رحمه اللَّه بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة المذكورة: (( .. والصواب من أقوال أهل العم أنه واجب من تركه فعليه دم ... )). [مجموع الفتاوى له، ١٧/ ٢٧٧]، وانظر: [فتاويه أيضاً: ١٦/ ٢٤٢، ١٧٥، ٢٢٢، ١٧/ ٢٨٠، ٢٨٤، ٢٨٦، ٣٢٢، وانظر: المغني لابن قدامة، ٥/ ٢٨٤، وزاد المعاد لابن القيم، ٢/ ٢٥٣، وأضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ٢٦٦ - ٢٧٢]. وذكر العلامة ابن عثيمين رحمه اللَّه الأقوال الثلاثة، ثم قال: ((ولكن القول الوسط أحسن الأقوال، أنه و (٣) يجبر بدم)).

<<  <   >  >>