للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يسوقوا الهدي أن يفسخوا حجهم ويجعلوا إحرامهم عمرة، كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة، بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وتأسَّف - صلى الله عليه وسلم - على سوقه للهدي الذي كان سبباً لعدم تحلُّله بالعمرة مع أصحابه، فلو لم يكن التمتع أفضل الأنساك لما أمر به أصحابه، ولما تأسف على أنه لم يفعله بقوله (١) - صلى الله عليه وسلم -: (( ... لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة)). وفي لفظ: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)). وفي لفظ للبخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه الذين لم يسوقوا الهدي: ((أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصِّروا، ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلِّوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة)). فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمَّينا الحج؛ فقال: ((افعلوا ما آمركم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل منِّي حرام حتى يبلغ الهدي محلِّه)) ففعلوا (٢).

وسمعت شيخنا ابن باز رحمه اللَّه تعالى يقول: ((والصواب أن التمتع

أفضل، فالمتمتع أفضل من القارن الذي ساق الهدي)) (٣) (٤).


(١) أضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ١٦٣.
(٢) متفق عليه من حديث جابر: البخاري، برقم ١٥٥٧،ورقم ١٦٥١،ومسلم برقم ١٢١٨،وتقدم تخريجه.
(٣) سمعته أثناء تقريره رحمه اللَّه على زاد المعاد، ٢/ ١٣٥.
(٤) اختلف العلماء رحمهم اللَّه تعالى في أفضل الأنساك الثلاثة على ثلاثة أقوال على النحو الآتي:
القول الأول: أن الإفراد أفضل، وهو أحد قولي الشافعي، ومذهب الإمام مالك، قال العلامة الشنقيطي رحمه اللَّه: ((اعلم أن ممن قال إن الإفراد أفضل من التمتع والقران: مالك وأصحابه، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وعائشة، والأوزاعي، وأبو ثور، وداود، واحتج من قال بتفضيل إفراد الحج على غيره بأدلة متعددة)) ثم ذكر رحمه اللَّه أدلتهم بالتفصيل [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ٥/ ١٢٧ - ١٥٨] وقد أجاد وأفاد رحمه اللَّه بذكر أدلة هذا القول ومناقشتها في إحدى وثلاثين صفحة، وانظر: المغني لابن قدامة، ٥/ ٨٣، والفروع لابن مفلح، ٥/ ٣٣٤].
القول الثاني: أن القران أفضل، وهو مذهب أبي حنيفة ومن وافقه: قال العلامة الشنقيطي رحمه اللَّه: ((وذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن القران هو أفضل أنواع النسك، وممن قال بهذا: أبو حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والمزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب، واحتج أهل هذا القول بأحاديث كثيرة دالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً في حجته)) ثم ذكر الشنقيطي رحمه اللَّه أدلة هذا الفريق وناقشها [أضواء البيان، ٥/ ١٥٨ - ١٦٣].
ومن أدلة هذا الفريق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، قال الإمام ابن القيم رحمه اللَّه: ((إنما قلنا إنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم قارناً لبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك)). [زاد المعاد، ٢/ ١٠٧]، ثم ذكر هذه الأحاديث عن سبعة عشر صحابياً، وعد أسماء هؤلاء الصحابة بالتفصيل الشنقيطي في أضواء البيان، ٥/ ١٦١، ثم قال: ((وبالجملة فثبوت كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا طرفاً منها لا مطعن فيه، وقد قدمنا أن القائلين بأفضلية الإفراد معترفون بقرانه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، إلا أنهم جمعوا بين الأحاديث بأنه أحرم أولاً مفرداً ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارناً، والذين قالوا بأفضيلة القران جزموا بأنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم قارناً في ابتداء إحرامه، واستدلوا لذلك بأحاديث صحيحة، ومنها حديث عمر - رضي الله عنه - عند البخاري، وفيه: ((وقل عمرة في حجة)) وكان ذلك بالعقيق قبل إحرامه ... )) [أضواء البيان، ٥/ ١٦١ - ١٦٢].
وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعاً، ولا منافاة؛ فإن الصحابة كان بعضهم يسمي القران تمتعاً، وقد نقل الإمام ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: ((والصواب أن الأحاديث في هذا الباب متفقة وليست بمختلفة، إلا اختلافاً يسيراً يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه - صلى الله عليه وسلم - تمتع، والتمتع عندهم يتناول القران)) ثم قال ابن القيم: ((فهؤلاء الخلفاء الراشدون: عمر، وعثمان، وعلي، وعمران بن حصين، رُوي عنهم بأصح الأسانيد: أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قرن بين العمرة والحج، وكانوا يسمون ذلك تمتعاً، وهذا أنس يذكر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة)) زاد المعاد، ٢/ ١١٨ - ١١٩، ثم ذكر خمسة عشر وجهاً في ترجيح حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قارناً. [زاد المعاد، ١٣٣ - ١٣٥].
القول الثالث: أن التمتع أفضل الأنساك الثلاثة: وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال: إسحاق، والشافعي في أحد قوليه، وأهل الظاهر [المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم للقرطبي، ٣/ ٣٠٩].
قال العلامة الشنقيطي رحمه اللَّه: ((اعلم أن حجة من قال: بأن التمتع أفضل مطلقاً، ومن قال: بأنه أفضل لمن لم يسق الهدي، وكلاهما مروي عن الإمام أحمد، هي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا هدياً أن يفسخوا حجهم في عمرة، كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وتأسفه صلوات اللَّه وسلامه عليه على سوقه الهدي، الذي كان سبباً لعدم تحلله بالعمرة معهم، قالوا: لو لم يكن التمتع هو أفضل الأنساك لما أمر به أصحابه، ولما تأسَّف على أنه لم يفعله في قوله: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)) [البخاري، برقم ١٥٥٧،ومسلم، برقم ١٢١٨] [أضواء البيان،٥/ ١٦٣].
وقال العلامة محمد بن مفلح المقدسي رحمه اللَّه: ((وأفضل الأنساك التمتع، ثم الإفراد، ثم القران، قال في رواية صالح وعبد اللَّه الذي يختار المتعة؛ لأنه آخر ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يعمل لكل واحد منهما على حدة، وقال أبو داود رحمه اللَّه: ((ونقل المروذي عن أحمد: إن ساق الهدي فالقران أفضل، ثم التمتع؛ لأن في الصحيحين عن عائشة مرفوعاً: ((من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً)) [البخاري، برقم ١٥٦١، ومسلم، برقم ١١١ -
(١٢١١) [قال]: واختاره شيخنا - يعني ابن تيمية - قال: وإن اعتمر وحج في سفرتين، أو اعتمر قبل أشهر الحج فالإفراد أفضل باتفاق الأئمة الأربعة، نص عليه أحمد في الصورة الأولى)) [الفروع لابن مفلح، ٥/ ٣٣٠ - ٣٣٤].
وقال العلامة الشنقيطي بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في أفضل الأنساك: ((الأظهر عندي في المسألة: هو ما اختاره العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه اللَّه في منسكه، وهو إفراد الحج بسفر ينشأ له مستقلاً، وإنشاء سفر آخر مستقل للعمرة)) [أضواء البيان، ٥/ ١٧١].
وقال الإمام ابن قدامة رحمه اللَّه: ((وأفضل الأنساك التمتع ... وعنه - يعني الإمام أحمد - إن ساق الهدي فالقران أفضل ... والأول أصح)) [الكافي لابن قدامة، ٢/ ٣٣٢ - ٣٣٣].
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: ((ونقل المروذي: أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسق فالتمتع أفضل)) [زاد المعاد، ٢/ ١٤١].
ولكن سمعت شيخنا ابن باز رحمه اللَّه أثناء تقريره على زاد المعاد، ٢/ ١٤١، معلقاً على كلام ابن القيم هذا، يقول: ((والأفضل التمتع لأنه الذي تمنَّاه - صلى الله عليه وسلم -، وأمر به أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الموافق للسنة القولية والفعلية)).
وقال ابن القيم أيضاً: ((ذهب جماعة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي، والتمتع بالعمرة المفردة على من لم يسق الهدي، منهم ابن عباس رضي اللَّه عنهما وجماعة)) [زاد المعاد، ٢/ ١١٤].
وقرر ابن القيم وجوب الفسخ إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي فقال: ((ونحن نشهد اللَّه علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة تفادياً من غضب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - واتباعاً لأمره)) [زاد المعاد، ٢/ ١٨٢].
وسمعت شيخنا ابن باز رحمه اللَّه أثناء تقريره على زاد المعاد عند كلام ابن القيم هذا، ٢/ ١٨٢، يرجح أن فسخ الحج إلى العمرة مستحب وليس بواجب، وأنه ينبغي للمسلم أن يفسخ الحج إلى العمرة إن لم يكن معه هدي.
وسمعت شيخنا ابن باز رحمه اللَّه يقول أثناء تقريره على زاد المعاد، ٢/ ١٣٥: ((والصواب أن المتمتع أفضل ... من القارن الذي ساق الهدي)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: ((والقران أفضل من التمتع إن ساق هدياً، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وإن اعتمر وحج في سفرتين، أو اعتمر قبل أشهر الحج فالإفراد أفضل باتفاق الأئمة الأربعة)) [الأخبار العلمية، من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص ١٧٣].
قال الإمام ابن قدامة رحمه اللَّه: ((وممن روي عنه اختيار التمتع: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وسالم، وعكرمة، وهو أحد قولي الشافعي، وروى المروذي عن أحمد إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل)) ثم ذكر الأدلة [المغني، ٥/ ٨٢ - ٨٣] وقال المرداوي في الإنصاف (٨/ ١٥١): ((وأفضلها التمتع، ثم الإفراد، هذا الصحيح من المذهب، نص عليه مراراً كثيرة، وعليه جماهير الأصحاب، قال في رواية: عبد اللَّه، وصالح: يختار المتعة؛ لأنه آخر ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من مفردات المذهب، وعنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل، ثم التمتع، رواها المروذي، واختارها الشيخ تقي الدين، وقال: هو المذهب، وقال: وإن اعتمر وحج في سفرتين، أو اعتمر قبل أشهر الحج فالإفراد أفضل باتفاق الأئمة الأربعة)).
ونقل العلامة ابن عثيمين رحمه اللَّه عن شيخ الإسلام: أن التمتع واجب على الصحابة - أي من لم يكن معه هدي - أما غيرهم فالمذهب أن التمتع هو الأفضل ... )) [الشرح الممتع، ٧/ ٩١]، ويؤكد قول شيخ الإسلام قول ابن عباس في مناظرته: ((أقول لكم قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)) [الإمام أحمد بنحوه، ١/ ٣٣٧، والخطيب في الفقه والمتفقه، ١/ ١٤٥، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، ٢/ ٢٣٩، وابن حزم في حجة الوداع، ص ٢٦٨].
وأما شيخنا ابن باز رحمه اللَّه، فقد سمعته يرجح أن التمتع أفضل الأنساك لمن لم يكن معه هدي، فالمتمتع أفضل من القارن الذي ساق الهدي سمعت هذا الترجيح أثناء تقريره على زاد المعاد،
٢/ ١٣٥. وذكر ابن القيم رحمه اللَّه ما نقله المروذي عن الإمام أحمد: أنه إذا ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل [زاد المعاد، ٢/ ١٤١] فسمعت شيخنا يقول على كلام المروذي: ((والأفضل التمتع لأنه الذي تمناه - صلى الله عليه وسلم -، وأمر به أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الموافق للسنة القولية والفعلية)) [سمعته أثناء تقريره على زاد المعاد، ٢/ ١٤١].
وانظر: شرح العمدة لابن تيمية، ١/ ٤٣٨ - ٥٥٣، وأضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ١٢٧ - ١٧٢، وزاد المعاد، لابن القيم، ٢/ ١٠٧ - ١٨٢، والمفهم للقرطبي، ٣/ ٣٠٨، وكتاب الفروع، لابن مفلح، ٥/ ٣٣١ - ٣٤٢، والمغني، لابن قدامة، ٥/ ٨٢ - ١١١، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، ٨/ ١٥١ - ١٦٦.

<<  <   >  >>