للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عليه سعيان: السعي الأول لعمرته، والسعي الثاني لحجِّه)) (١).

أما القارن والمفرد فليس على كل واحدٍ منهما إلا سعي واحد؛ فإن كان قد سعاه بعد طواف القدوم كفاه ذلك عن السعي بعد طواف الإفاضة، وإلا سعى بعد طواف الإفاضة (٢) (٣).


(١) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم ١٥٧٢.
(٢) انظر: حديث جابر - رضي الله عنه - في صحيح مسلم، برقم ١٢١٨، والكلام على ذلك مع التحقيق في زاد المعاد، ٢/ ٢٧٣.
(٣) اختلف العلماء رحمهم اللَّه تعالى في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب على النحو الآتي:
المذهب الأول: أن على القارن طوافاً واحداً وسعياً واحداً، وأن ذلك يكفيه لحجته وعمرته، وأن على المتمتع طوافين وسعيين، وهذا هو مذهب جمهور العلماء: منهم مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايات.
واحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها:
أولاً: أدلتهم على أن القارن يكفيه طواف واحد بالبيت، وسعي واحد بين الصفا والمروة منها الأحاديث الآتية:
الحديث الأول: حديث عائشة رضي اللَّه عنها: ((أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة، فقال لها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك)) [مسلم، برقم ١٣٣ - (١٢١١) وفي رواية أنها: ((أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: ((يسعك طوافك [أي يكفيك] لحجك وعمرتك)) الحديث. [مسلم برقم ٣٣٢ - (١٢١١)].قال الشنقيطي في أضواء البيان، ٥/ ١٧٢: ((ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولاً، ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح بأنها قارنة، حيث قال: ((لحجك وعمرتك)) ومع ذلك صرح بأنها يكفيها لهما طواف واحد)).
الحديث الثاني: حديث عائشة رضي اللَّه عنها، قالت: ((خرجنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان معه هديٌ فليُهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحلّ حتى يحِلّ منهما جميعاً)) الحديث. وفيه: ((فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلُّوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً)) [البخاري، برقم ١٥١٦، ومسلم بلفظه، برقم ١٢١١، وتقدم تخريجه]، ومقصودها بالطواف هو الطواف بين الصفا والمروة، أما الطواف بالبيت فهو ركن من أركان الحج في حق الجميع.
الحديث الثالث: حديث جابر - رضي الله عنه - وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت العمرة في الحج مرتين)) [مسلم، برقم ١٢١٨]، وتصريحه - صلى الله عليه وسلم - بدخولها فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران، وإن أوَّله جماعات من أهل العلم بتأولات أخرى متعددة [أضواء البيان، ٥/ ١٧٧].
الحديث الرابع: حديث عبد اللَّه ابن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد، وسعي واحد عنهما حتى يحل منهما جميعاً)) [الترمذي، برقم ٩٤٨، وابن ماجه، برقم ٢٩٧٥، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ١/ ٤٨٦، وأصله في صحيح مسلم برقم ١٨١ - (١٢٣٠)، وأخرجه البخاري، في الحج باب طواف القارن، وباب من اشترى الهدي من الطريق، والأحاديث الدالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته، كفعل المفرد كثيرة، وفيما ذكرت من الأحاديث الصحيحة الصريحة كفاية لمن يريد الحق [وانظر: أضواء البيات للشنقيطي، ٥/ ١٧٧].
ثانياً: أدلتهم على أن المتمتع لا بد له من طوافين بالبيت، وسعيين بين الصفا والمروة، طواف وسعي لعمرته، وطواف وسعي لحجه، أدلة كثيرة، منها الأحاديث الآتية:
الحديث الأول: حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وفيه أن المهاجرين والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قدموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن لم يكن معه الهدي طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلَّ، ثم أحرموا بالحج يوم التروية، جاءوا بعد فراغهم من المناسك، فطافوا بالبيت، وبالصفا والمروة [البخاري، برقم ١٥٧٢]،وهذا المعنى، ولفظ الحديث تقدم ذكره في طواف الإفاضة قبل قليل فاكتفيت بالمعنى هنا.
الحديث الثاني: حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وتقدم ذكره في متن هذا البحث في طواف الإفاضة، وفيه:
(( ... فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلُّوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ... )) [البخاري، برقم ١٥٦١، مسلم، برقم ١٢١١، واللفظ لمسلم]، وتعني بالطواف الآخر: الطواف بين الصفا والمروة، أما الطواف بالبيت طواف الإفاضة فهو ركن في حق الجميع.
قال الشنقيطي رحمه اللَّه في أضواء البيان، ٥/ ١٨٣: ((فهذا نص صريح متفق عليه، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع، وأن القارن يفعل كفعل المفرد، والمتمتع يطوف لعمرته، ويطوف لحجه، فلا وجه للنزاع في هذه المسألة بعد هذا الحديث، وحديث ابن عباس المذكور قبله، وقول من قال: إن المراد بالطواف الواحد في حديث عائشة هذا: السعي له وجه من النظر، واختاره ابن القيم، وهو وجيه عندي)).
المذهب الثاني: المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، وهو رواية عن أحمد، وبه قال ابن تيمية [انظر: مجموع فتاويه، ٢٦/ ١٣٨]، فقد استدل من قال بهذا، بحديث جابر - رضي الله عنه -، قال: ((لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً))، وفي لفظ: ((طوافه الأول))، [مسلم، برقم ١٢٧٩].
قال الإمام النووي رحمه اللَّه [في شرح صحيح مسلم، ٩/ ٢٩]: ((فيه دليل لما قدمناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، وأن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، وقد سبق خلاف أبي حنيفة وغيره في المسألة، واللَّه أعلم))، وقال من تمسك بهذا الحديث من الحنفية وغيرهم: ((هذا نص صريح صرح فيه جابر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، وإذن ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد فقط)) [انظر: أضواء البيان، ٥/ ١٨٤].
وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة منها:
الجواب الأول: إن الجمع واجب إن أمكن، قالوا: وهو هنا ممكن، بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين لم يطوفوا إلا طوافاً واحداً للعمرة والحج، خصوص القارنين منهم، كالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان قارناً بلا شك، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقاً لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين وهذا واضح.
الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر المذكور مع حديث عائشة وحديث ابن عباس، فقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي، فيجب تقديم حديث ابن عباس وحديث عائشة؛ لأنهما مثبتان على حديث جابر النافي.
الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح: ابن عباس، وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد، قال في مراقي السعود:
وكثرة الدليل والرواية مرجّح لدى ذوي الدراية [أضواء البيان، ٥/ ١٨٥].
المذهب الثالث: القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان، وسعيان: طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج، وبه قال أبو حنيفة ومن وافقه، واستدلُّوا بأحاديث ضعيفة عن محمد بن الحنفية عند النسائي في الكبرى، وعن ابن عمر عند الدارقطني، وعن عمران بن حصين عند الدارقطني، وقد تكلم عن هذه الأحاديث العلامة الشنقيطي في أضواء البيان، ٥/ ١٨٦ - ١٩١، ثم قال: ((وقد علمت .. أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن، ليس فيها حديث قائم ... )).
وأجاب من قال: بأن القارن ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد كفعل المفرد: أجابوا على الأحاديث المذكورة من وجهين:
الوجه الأول: هو أن جميع الأحاديث المذكورة ضعيفة كما قال أهل العلم.
الوجه الثاني: لو سلمنا تسليماً جدلياً أن بعضها يصلح للاحتجاج فهي معارضة بما هو أقوى منها، وأصح وأرجح، فتكون شاذة. قال العلامة الشنقيطي رحمه اللَّه في الأضواء، ٥/ ١٩٠: ((وقد اتضح في هذه المسألة أن التحقيق فيها: أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج)).

<<  <   >  >>