للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأحسسنا بِالْمَوْتِ، وأيقنا بتلفنا من الْجُوع لَا محَالة.

فَقَالَ بَعْضنَا لبَعض: تَعَالَوْا نجْعَل لله تَعَالَى على أَنْفُسنَا أَن نَدع لَهُ شَيْئا، فَلَعَلَّهُ أَن يَرْحَمنَا فيخلصنا من هَذِه الشدَّة.

فَقَالَ بَعْضنَا: أَصوم الدَّهْر كُله.

وَقَالَ الآخر: أُصَلِّي كل يَوْم كَذَا وَكَذَا رَكْعَة.

وَقَالَ بَعْضنَا: أدع لذات الدُّنْيَا، إِلَى أَن قَالَ كل وَاحِد مِنْهُم شَيْئا، وَأَنا سَاكِت.

فَقَالُوا: قل أَنْت الآخر شَيْئا.

فَلم يجر على لساني إِلَّا أَن قلت: أَنا لَا آكل لحم فيل أبدا.

فَقَالُوا: مَا هَذَا القَوْل فِي مثل هَذَا الْحَال؟ فَقلت: وَالله، لم أتعمد هَذَا، وَلَكِنِّي مُنْذُ بدأتم فعاهدتم الله تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَنا أعرض على نَفسِي أَشْيَاء كَثِيرَة فَلَا تطاوعني بِتَرْكِهَا، وَلَا خطر ببالي شَيْء أَدَعهُ لله تَعَالَى، وَلَا مر على قلبِي غير الَّذِي لفظت بِهِ، وَمَا أجري هَذَا على لساني إِلَّا لأمر.

فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة، قَالَ أَحَدنَا: لم لَا نطوف هَذِه الأَرْض مُتَفَرّقين فنطلب قوتًا، فَمن وجد شَيْئا أنذر بِهِ البَاقِينَ، والموعد هَذِه الشَّجَرَة.

قَالَ: فتفرقنا فِي الطّواف، فَوَقع بَعْضنَا على ولد فيل صَغِير، فلوح بَعْضنَا لبَعض فَاجْتَمَعْنَا، فَأَخذه أَصْحَابنَا، واحتالوا فِيهِ حَتَّى شووه وقعدوا يَأْكُلُون.

فَقَالُوا لي: تقدم وكل مَعنا.

فَقلت: أَنْتُم تعلمُونَ أَنِّي مُنْذُ سَاعَة تركته لله عز وَجل، وَمَا كنت لأرجع فِيهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك قد جرى على لساني من ذكري لَهُ، هُوَ سَبَب موتِي من بَيْنكُم، لِأَنِّي مَا أكلت شَيْئا مُنْذُ أَيَّام، وَلَا أطمع فِي شَيْء آخر، وَلَا يراني الله عز وَجل أنقض عَهده، وَلَو مت جوعا، فاعتزلتهم وَأكل أَصْحَابِي.

وَأَقْبل اللَّيْل، فأويت إِلَى أصل شَجَرَة كنت أَبيت عِنْدهَا، وتفرق أَصْحَابِي للنوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>