للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ففطنت، وكلحت، وَقَالَت: مَا أعجب أَمركُم، لَا يزَال أحدكُم يَجِيء إِلَى الْجَارِيَة عَلَيْهَا الضريبة، فيحبسها.

فضربتُ يَدي إِلَى الثَّلَاثَة دَرَاهِم، فدفعتها إِلَيْهَا، وَقلت: أقيمي بِهَذِهِ وَجهك الْيَوْم، إِلَى أَن نَلْتَقِي.

فأخذتها كالكارهة، وَقَالَت: أَنْت الْآن تُرِيدُ أَن تَأْخُذ مني صَوتا، أحسبك ستأخذ بِهِ ألف دِينَار، وَألف دِينَار، وَألف دِينَار، وانبعثت تغني.

فأعملت فكري فِي غنائها، حَتَّى دَار لي الصَّوْت، وفهمته، فَانْصَرَفت مَسْرُورا إِلَى منزلي، وَأَنا أردده، حَتَّى خف على لساني.

ثمَّ إِنِّي خرجت إِلَى بَغْدَاد، فدخلتها، فطرحني المكاري بِبَاب محول، لَا أَدْرِي أَيْن أتوجه، فَلم أزل أَمْشِي مَعَ النَّاس، حَتَّى أتيت الجسر، فعبرته، ثمَّ انْتَهَيْت إِلَى شَارِع الميدان، فَرَأَيْت مَسْجِدا بِالْقربِ من دَار الْفضل بن الرّبيع مرتفعا، فَقلت: هَذَا مَسْجِد قوم سراة، فدخلته، وَحَضَرت صَلَاة الْمغرب، فَصليت، وأقمت بمكاني إِلَى أَن صليت الْعشَاء، وَبِي من الْجُوع والتعب أَمر عَظِيم.

فَانْصَرف أهل الْمَسْجِد، وَبَقِي رجل يُصَلِّي، وَخَلفه جمَاعَة خدم وفحول، ينتظرون فَرَاغه، فصلى مَلِيًّا، ثمَّ انْصَرف إِلَيّ بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: أحسبك غَرِيبا.

قلت: أجل.

قَالَ: فَمَتَى كنت فِي هَذِه الْمَدِينَة؟ قلت: دَخَلتهَا آنِفا، وَلَيْسَ لي بهَا منزل وَلَا معرفَة، وَلَيْسَت صناعتي من الصَّنَائِع الَّتِي يمت بهَا إِلَى أهل الْخَيْر.

فَقَالَ: وَمَا صناعتك؟ قلت: أُغني.

فَقَامَ، وَركب مبادرا، ووكل بِي بعض من كَانَ مَعَه، فَسَأَلت الْمُوكل بِي عَنهُ، فَقَالَ لي: هَذَا سَلام الأبرش، ثمَّ عَاد، فَأخذ بيَدي، فَانْتهى بِي إِلَى قصر من قُصُور الْخَلِيفَة، فَأَدْخلنِي مَقْصُورَة فِي آخر الدهليز، ودعا بِطَعَام من طَعَام الْمُلُوك على مائدة، فَأكلت، فَإِنِّي لكذلك، إِذْ سَمِعت ركضا فِي الدهليز، وقائلا يَقُول: أَيْن الرجل؟ فَقيل: هُوَ ذَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>