للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الذين وجد راحلته وقد أشرف على الهلاك من العطش والجوع: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" (١) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أخطأ من شدة الفرح" وقيل: إنما قال هذا الرجل ذلك على جهة: أنه خاف أن يقابله على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات والتشبه بأحوال الساخرين والمستهزئين فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟ وهذا كما قال تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} و {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} أي: يجازيهم جزاء استهزائهم وسخريتهم على أحد التأويلات" (٢).

واعتبر القرطبي إطلاق المكر على الله تعالى على وجه المقابلة من باب المجاز فقال عند تأويله لملل الله تعالى الثابت بالحديث: "هو على الله محال، وإنما أطلق هنا على الله تعالى على جهة المقابلة اللفظية مجازًا، كما قال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} (٣) " (٤).

وقال المازري في شرحه للحديث السابق: "قد يقال: كيف يقال للباري سبحانه: أتسخر مني؟ وإنما ساغ ذلك في الشرع على وجه المقابلة كقوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}، و {يَسْتَهْزِئُونَ}، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} والجواب: أن هذا لم يقع إلَّا على جهة المقابلة، وهي وإن لم تكن موجودة في اللفظ فهي موجودة في معنى الحديث؛ لأنه ذكر فيه أنه عاهد الله مرارًا أن لا يسأل الله تعالى غير ما سأله ثم غدر، وحل غدره محل الاستهزاء والسخرية، فقدر أن قوله تعالى له: "ادخل الجنة" وتردده إليها وتخيله أنها ملأى ضرب من الإطماع له والسخرية به جزاء


(١) سبق تخريجه ص (٥٧٨).
(٢) المفهم (١/ ٤٢٥).
(٣) سورة آل عمران، آية: ٥٤.
(٤) المفهم (٢/ ٤١٤).

<<  <   >  >>