للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعْضُ قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَعَمَدَ إلَى أَوْقَافٍ وَقَفَهَا وَاقِفُونَ وَاسْتَمَرَّتْ فِي أَيْدِيهِمْ يَصْرِفُونَهَا عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ ثُمَّ بِأَيْدِي نُظَّارِهَا بَعْدَهُمْ كَذَلِكَ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَأَبْطَلَهَا، وَرَدَّهَا إلَى مِلْكِ وَرَثَةِ الْوَاقِفِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الْيَدِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ، وَلَا إلَى سُكُوتِ الْوَارِثِينَ وَوَارِثِيهِمْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْحَوْزِ إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ وَامْتِنَاعُ الدَّعْوَى مَعْرُوفٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا هُنَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْقَافُ قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَ حَاكِمٍ فَيَتَعَلَّقُ فِي إبْطَالِهَا بِعَدَمِ الْحَوْزِ، وَبِأَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَرُبَّمَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ الثُّبُوتِ حُكْمٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ: " حَكَمْت بِصِحَّتِهِ " فَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْإِبْطَالِ إلَّا حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، قَالَ: وَأَنَا أَذْكُرُهَا هُنَا قَاعِدَةً فَأَقُولُ: الْقَاضِي الْمُعْتَبَرُ حُكْمُهُ تَارَةً يَقْتَصِرُ عَلَى الثُّبُوتِ وَتَارَةً يُضِيفُ إلَيْهِ حُكْمًا أَوْ يَذْكُرُ الْحُكْمَ مُجَرَّدًا، وَمِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَهُ ثُبُوتٌ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى، وَهِيَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثُّبُوتِ فَتَارَةً يُضِيفُ الثُّبُوتَ إلَى السَّبَبِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْحُكْمُ، وَتَارَةً يُضِيفُ الثُّبُوتَ إلَى الْحُكْمِ نَفْسِهِ فَهُمَا قِسْمَانِ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى السَّبَبِ كَإِثْبَاتِ جَرَيَانِ عَقْدِ الْوَقْفِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ النِّكَاحِ وَنَحْوِهَا هَذَا غَالِبُ مَا يَقَعُ مِنْ الثُّبُوتِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَاضِي: ثَبَتَ عِنْدِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الْعُقُودِ أَوْ ثَبَتَ عِنْدِي الْإِقْرَارُ بِهَا أَوْ بِالدَّيْنِ مَثَلًا، فَالْبَيِّنَةُ وَالْإِقْرَارُ لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ لِلْحُكْمِ، بَلْ لِأَسْبَابِهِ، يَعْنِي أَنَّهُمَا سَبَبَانِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لَا لِلْحَاكِمِ بِحَقِيقَةِ ثُبُوتِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ تَزْكِيَتُهَا وَقَبُولُهَا، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ أَوْ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ حُكْمٌ، وَلَا يُتَّجَهُ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ إلَّا أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ وَقَبُولِهَا وَجَرَيَانِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ أَوْ الْإِلْزَامُ بِشَيْءٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِلْزَامُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ فَقَالَ: وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الثُّبُوتَ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُثْبِتَ بَاطِلًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يُثْبِتُ الشَّيْءَ؛ لِيَنْظُرَ كَوْنَهُ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا، وَقَدْ يُثْبِتُ الشَّيْءَ الْبَاطِلَ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّهُ قَدْ يُثْبِتُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ؛ لِيَنْظُرَ غَيْرَهُ فِيهِ. أَمَّا إثْبَاتُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ لَا لِقَصْدِ الْإِبْطَالِ وَلَا لِيَنْظُرَ غَيْرَهُ فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>