للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، وقال آخرون: إنها مُحْكَمَةٌ (١)، ومعناها عندهم: الخبرُ من الله بأنه محاسِبٌ عبادَه بما يُبدون من أعمالهم وما يُخفون، وهي عامةٌ في المؤمنين والكفار؛ ولهذا قال: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاء} وهم: المؤمنون {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء} وهم: الكفار، ولا منافاةَ بين القولَين فمَن قال: إنها منسوخةٌ أراد أنه نسخَ منها ما فهمَهُ الصحابةُ وشقَّ عليهم وهو المحاسبةُ على حديث النفس مما لا يستطاعُ دفعُهُ، وليس هذا رفعًا لحكمِ الآية في كلِّ ما يُبدي العبادُ مما في نفوسِهم وما يُخفونه، وعلى هذا فيكون قولُه تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} رافعًا لحكم الآيةِ في بعض أفراد العامِّ، وهذا من قَبيل التخصيصِ، وكان المفسِّرون من السلف يُسمُّونه نسخًا، فالآية على عمومِها، وخصَّ منها ما لا يُستطاعُ التحرُّجُ منه من الخواطر والأفكار التي تَرِدُ على القلب بغيرِ إرادةِ العبد، وهو الذي خاف الصحابةُ رضي الله عنهم أنهم مُحاسَبون به، واختار ابنُ جرير أَنَّ الآيةَ محكمةٌ فلا نَسْخَ ولا تخصيصَ، وأيَّدَ ذلك بأَنَّ المحاسبةَ لا تستلزمُ عقوبةً (٢)، وفي قوله هذا نظرٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ نُوقِشَ الحسابَ عُذِّبَ)) (٣)، وأيضًا فخوفُ الصحابة من الوعيد بالحساب يدلُّ على أنهم يرونَ الحساب قد يُؤدِّي إلى العذاب؛ قال بعد ذِكْرِ أقوالِ الناس فيها: «وأَولى الأقوالِ التي ذكرناها بتأويلِ الآية: قولُ مَنْ قال: إنها مُحْكَمَةٌ، وليست بمنسوخةٍ؛ وذلك أن النسخَ لا يكون في حكمٍ إلا ينفيهِ بآخرٍ له نافٍ من كلِّ وجوهِه، وليس في قوله جلَّ وعزَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} نفي الحكم الذي أعلم عباده بقوله: {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} لأن المحاسبةَ ليست بموجِبةٍ عقوبة، ولا مؤاخذة بما


(١) ينظر: «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ٢٧٣ - ٢٧٧)، و «نواسخ القرآن» لابن الجوزي (ص ٨٩ - ٩٥).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٥/ ١٤٣ - ١٤٤).
(٣) أخرجه البخاري (٦٥٣٦) واللفظ له، ومسلم (٢٨٧٦) من حديث عائشة رضي الله عنها.

<<  <   >  >>