تزورنا على حين توقان منا إليك، ومنازعة قلوبنا نحوك. فقال "مان": الشوق شديد، والمزار بعيد، والحجاب عتيد، والبواب فظ عنيد ولو سهل الإذن لسهلت علينا الزيارة. قال: لقد ألطفت في الاستئان، فلا تمنع في أي وقت جئت من ليل أو نهار، ثم أذن له فجلس، ثما دعا له بالطعام فأكل، ثم غسل يديه وأخذ مجلسه. وكان محمد قد تشوق إلى السماع من "تنوسة" جارية ابنة المهدي، فأحضرت فكان أول ماغنت:
ولست بناس إذا غدوا فتحملوا ... دموعي على الأحباب من شدة الوجد
وقولي وقد زالت بليل حمولهم ... بواكر تخدى لا يكن آخر العهد
فقال "مان": أحسنت والله، ألا زدت فيه:
أقمت أناجي الفكر والدمع حائر ... بمقلة موقوف على الجهد
ولم يعدني هذا الأمير بعزه ... على ظالم قد لج في الهجر والبعد
فاندفعت تغنيه، فرق محمد بن عبد الله له وقال: أعشاق أنت يا "مان"؟ قال: فاستحيا وغمزه ابن طالوت أن لا يبوح له بشيء فيسقط من عينه فقال: بل هلع، وطرب اعز الله الأمير وشوق كان كامنا فظهر وهل بعد المشيب من صبوة، ثم اقترح محمد على "تنوسة" هذا الصوت من شعر أبي العتاهية:
حجبوها عن الرياح لأني ... قلت يا ريح بلغيها السلاما
لو رضوا بالحجاب هان ولكن ... منعوها يوم الرحيل الكلاما
فغنته فطرب محمد، ثم دعا برطل فشربه فقال "مان": ما على قائل هذا الشعر لو زاد فيه:
فتنفست ثم قلت لطيفي ... آه لو زرت طيفها إلماما
خصها بالسلام سترا وإلا ... منعوها لشقوتي أن تناما
فكان أبعث للصبابة بين الأحشاء وألطف تغلغلا على كبد الظمآن من زلال الماء مع حسن تأليف نظامه وانتهائه إلى غاية تمامه قال محمد: أحسنت والله يا "مان"، ثم أمر "تنوسة" بإلحاقها هذين البيتين بالأولين ففعلت ثم غنت هذين البيتين من شعر أبي نواس:
يا خليلي ساعة لا تريما ... وعلى ذي صبابة فأقيما
ما مررنا بدار زينب إلا ... فضح الدمع سرنا المكتوما
فاستحسنه محمد فقال "مان": لولا رهبة التعدي لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع ذي لب إلا صد استحسانه لهما. فقال محمد: الرغبة فيما تأتي به حائلة دون كل رهبة فهات ما عندك فقال:
ظبية كالغزال لو تلحظ الصخ ... ر بطرف لغادرته هشيما
وإذا ما تبسمت خلت ما تبدى ... من الثغر لؤلؤا منظوما
قال محمد: أحسنت والله فأجز:
لم تطب اللذات إلا لمن ... طابت له لذات تنوسة
غنت بصوت أطلقت عبرة ... كانت بحسن الصبر محبوسة
فقال "مان":
وكيف صبر النفس عن غادة ... تظلمها إن قلت طاووسه
وجرت إن شبهتها بانة ... في جنة الفردوس مغروسة