[خرقاء بنت النعمان بن المنذر]
كانت أحسن نساء زمانها جمالا، وأفصحهن مقالا، وأكملهن عقلا، وأعظمهن أدبا، وكانت معتنقة الديانة المسيحية ومتعبدة بها تعبدا زائدا وكانت إذا خرجت إلى بيعتها يفرش لها طريقها بالحرير والديباج مغشى الخز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها وترجع إلى منزلها وبقيت على ذلك وهي في غاية العز والإجلال إلى أن هلك النعمان فكلمها الزمان، فأنزلها من الرفعة إلى الذلة، ولما نزل سعد بن أبي وقاص بالقادسية أميرا عليها وهزم الله الفرس، وقتل رستم أتت خرقاء بنت النعمان في حفدة من قومها وجواريها وهن في زيها عليهم المسموح والمقطعات السود مترهبات تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه أنكرهن سعد فقال: أيكن خرقاء؟ قالت: ها أنا ذا· قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم، فما تكرارك في استفهامي، ثم قالت: إن الدنيا دار زوال ولا تدوم على أهلها انتقالاً، وتعقبهم بعد حال حالا، كنا ملوك هذا المصر يجبي لنا خراجه ويطيعنا أهله مدى الإمرة وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر فشق عصانا، وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد أنه ليس يأتي قوما بمسرة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف
فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد كأنه ينظر حيث يقول:
إن للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبيتن قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى معافى فيرزا ... ولقد كان آمنا مسرورا
فبينما هي واقفة بين يدي سعد إذ دخل عمرو بن معد يكرب وكان زوارا لأبيها في الجاهلية فلما نظر إليها قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم، قال: فما دهمك فأذهب بجودات شيمك أين تتابع نعمتك وسطوات نقمتك· فقالت: يا عمرو، إن للدهر عثرات وعبرات تعثر بالملوك وأبنائهم فتخفضهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عزان، هذا الأمر كنا ننتظره فلما حل بنا لم ننكره·
فأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه قالت: حي أختك بتحيات ملوكنا لا نزع الله من عبد صالح نعمة إلا جعلك سببا لردها عليه، ثم خرجت من عنده فلقيها نساء المدينة فقلن لها: ما فعل بك الأمير؟ قالت: أكرم وجهي وإنما يكرم الكريم كريم·
[حزانة ابن خالد بن جعفر بن قرط]
كانت من الأدب على جانب عظيم ومن الفصاحة والبلاغة على جانب أعظم، والفروسية كانت عندها زائدة، حضرت فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص وخاضت معه المعامع والمعارك وقد حضرت فتوح الحرة حينما استشهد من المسلمين خمسمائة وثلاثون فارسا فقالت ترثيهم في أبيات كما جاء في الحبرة للواقدي في " فتوج الشام":
أيا عين جودي بالدموع السواجم ... فقد شرعت فينا سيوف الأعاجم
فكم من حسام في الحروب وذابل ... وطرف كميت اللون صافي الدعائم
حزنا على سعد وعمرو ومالك ... وسعد مبيد الجيش مثل الغمائم
هم فتية غر الوجوه أعزة ... ليوث لدى الهيجاء شعث الجماجم