آخر من حدث عن صاحبه ابن الحجار بالسماع أيضا وبين وفاتهما مائة سنة، وتوفيت عائشة هذه بدمشق سنة ٨١٦ هجرية ودفنت بالصالحية رحمة الله عليها.
[عائشة بنت يوسف بن أحمد بن نصر الباعوني]
كانت شاعرة مطبوعة، فاضلة أديبة، لبيبة عاقلة، وكان على وجهها من الجمال لمحة جملها الدب وحلتها بلاغة العرب، فجعلتها بغية ومنية الراغبين، والذي أجمع عليه العارفون أن عائشة هذه بين المولدين تزيد عن الخنساء بين الجاهلين، وقد وصفها عبد الغني النابلسي بأنها فاضلة الزمان، وحليفة الأدب في كل مكان، ووصفها غيره من العلماء والأعلام بأنها ربة الفضل والأدب، وصاحبة الشرف والنسب، وقد حضرت الفقه والنحو والعروض على جملة من مشايخ عصرها مثل جمال الحق والدين إسماعيل الحوراني والعلامة محيي الدين الأموري، وقد أخذ عنها جملة من العلماء والأعلام، وقد انتفع بها خلق كثير من الطالبين ولها ديوان شعر بديع في المدائح النبوية كله لطائف، ومن تآليفها:(مولد جليل للنبي صلى الله عليه وسلم) اشتمل على فرائد النظم والنثر، ومن شعرها قولها في جسر الشريعة لما بناه الملك الظاهر برقوق بيتان هدما كثيرا مما شيده فحول الشعراء من البيوت وهما:
بنى سلطاننا برقوق جسرا ... بأمر والأنام له مطيعة
مجازا في الحقيقة للبرايا ... وأمرا بالمرور على الشريعة
وبالحقيقة أن من رأى سحر بلاغتها فكأنما رأى هاروت وماروت، ومن شعرها البديع في الغزل قولها:
كأنما الخال القرط في عنق ... بدا لنا من محيا من خلقا
نجم غدا بعمود الصبح مستترا ... خلف الثريا قبيل الشمس فاحترقا
ومن نظمها قصيدتها البديعية التي سارت بذكرها الركبان، وفاقت بمعانيها على الصفي وابن حجة وسائر أهل البديع وذوي العرفان، ولها عليها شرح بديع سمته بالفتح المبين في مدح الأمين نظمتها على منوال بديعية تقي الدين بن حجة مع عدم تسمية النوع تمسكا بطلاقة الألفاظ، وانسجام الكلمات، وشرحتها بشرح مختصر أسفرت فيه عن لسان البيان بقدر الطاقة والإمكان، ونحن نورد مقدمة هذا الشرح بحروفها لما فيها من حسن المعاني البديعة وتأتي على إيراد القصيدة بأكملها بدون شرح وذلك إظهارا لفضل المترجمة وعلو همتها. قالت رحمها الله تعالى:
[(بسم الله الرحمن الرحيم)]
الحمد لله محلي جياد الأفهام بعقود مدح الشفيع، ومجلي سلامة الأذواق بمكرر ذكره الرفيع ومرصع تيجان البيان بجواهر سيرته الحسنا، ومزين سماء البلاغة بزواهر معجزه الأسنى، ومعجز العقول عن إدراك كنه صفاته، ومؤيس الأفكار من إحصاء خصائصه وآياته، وباعث الرسل مقررين لعظيم قدره، ومنزل الكتب مبنية لرفيع ذكره، ومعطر أرجاء الوجود بالثناء على خلقه العظيم، ومشرع ألوية التخصيص له بكرائم التسجيل وجلائل التكريم، ومطلق ألسنة الأطناب في شرفه المطلق المفرد ومفرده بكمال الاصطفاء فما لكماله مثل ولأحد حمدا يجمع لي بين الأماني والأمان، ويقتضي المزيد من المبرات الشهود والعيان، وأشهد