وذهبوا بها إلى زعيمهم فاخترقت الصفوف مرتجفة والسيوف والبنادق قد سدت الآفاق من حولها، ولو زلت قدمها لقتلت دوسا، ولكنها ثبتت على ضعفها ست ساعات تسمع صراخ القتلى وأنين المعذبين حتى أطلق سبيلها، فخرجت من فرنسا فرحة بأنها قد لقيت ما لقيت فداء نفس خلصتها من الموت، وكتبت كتابا بليغا في الدفاع عن الملكة (ماري أنتوانيت) ، لكنه لم يأت بالفائدة المقصودة فجزعت على قتلها جزعا شديدا.
وفي سنة ١٧٩٧ م: عادت من سويسرا حيث كانت متوجهة إلى باريس فوقع خلاف بينها وبين (نابليون بونابرت) لأنها أوجست منه السوء بعد تعرفها به بقليل قالت: إني لما تعرفت به أعجبني خلقه وعقله وقلت: إنه قد انفرد بهما كما انفرد بنصراته، وإنه رجل معتدل الطباع من أهل الجد والوقار بعكس زعماء الثورة ذوي الطباع الصعبة الذين كانوا يحكمون قبله، ولكن لما هدأ الجأش من إعجابي به وعدت إلى نفسي شعرت بنفور عظيم منه لما وجدته فيه، فإنه كالسيف البارد الماضي يجمد جمودا حين يجرح جرحا، وعلمت أنه يحتقر الأمة التي يريد أن يملك عليها.
وجاهرت بمعاندته، فكنت ترى قاعتها غاصة بجماهير النافرين من (بونابرت) الناقمين عليه، فأوجس (بونابرت) خيفة منها، وحاول أن يرشوها بالمال لترجع عن معاندته فوعدها بأن يدفع لها مليوني ليرة كانا لأبيها على الدولة فرفضت قبول تلك الرشوة. فقال لها (جوزف بونابرت) : (قولي إذا ماذا تشتهين) قالت: (لا أشتهي شيئا وإن سيري هذا طبق لما اعتقده) .
وكانت تحب سكن باريس محبة شديدة وتخاف النفي منها جدا ولا تسر إلا بمعاشرة الأدباء محفوفة بأهل الفضل والأصدقاء. وكان (نابليون بونابرت) يعلم ذلك فلما رأى إصرارها على معاداته أبى إلا أن ينتقم منها، فنفاها إلى مدينة سويسرا ولم يسمح لها بالاستبعاد عن منزلها أكثر من ميلين وحرمها من العودة إلى باريس فكان ذلك عليها مصيبة لا تطاق فقضت باقي أيامها حزينة على فراق باريس، وتولت تربية أولادها فكانت تعلمهم أكثر النهار ولم تنقطع عن ذلك في أشد أيامها حزنا وكآبة، وذلك كان أولادها يحبونها حبا عظيما، ويخاطرون بأنفسهم دفاعا عنها كما روى ذلك كثيرون من المؤرخين المشهورين، وقد اشتهرت مدام (روستايل) بمحامد كثيرة ظهر بعضها فيما مر نزيد عليه محبتها للحق والوقوف على حقائق الأمور ولذلك كانت تبذل جهدها في تعلم كل شيء ولو مهما كلفها من المشقة وكانت تقول: (جهل الناس للحق والحقائق أكبر دليل على انحطاطهم) . وقالت عن بونابرت: (إني علمت بانحطاطه منذ رأيته لا يهتم بحقائق الأمور) .
وكانت تحب الموسيقى وتلهو بها عن أشغال التأليف، وتزيد السامعين طربا بحلاوة صوتها، وكان لها ميل شديد إلى التشخيص، وموهبة عظيمة فيه فكانت تعرف كل المراسح الأجنبية جيدا، وتعلمت في كبرها اللغات التي فاتها تعلمها في صغرها ومن أقوالها: إن درس اصطلاحات اللغة أحسن المثقفات للعقل وأسهل السبل لمعرفة أخلاق أهلها. كما هي وأعظم ما اشتهرت به كتبها التي بلغ عددها ثمانية عشر مجلدا في كل فن مستظرف حتى سموها (فولتير النساء) لكثرة المباحث التي بحثت فيها وقد قضت مؤلفاتها ثلاث غايات من أسمى الغايات.
إحداها: توسيع علم الجمال عما كان في زمانها.
والثانية: مهاجمة فلاسفة فرنسا المؤدبين ك (ديدور) و (دولباش) و (كندلاك) وغيرهم. مهاجمة عنيفة زعزعت أركان فلسفتهم.
والثالثة: بث روح الحرية في صدور قومها إذ أبانت لهم أن الحرية أعظم شرط لسلامة الآداب والديانة الصحيحة، وكانت فاضلة تقية ورعة غير مترفضة.
وماتت في ١٤ تموز (يوليو) سنة ١٨١٧ م بعد أن جالت زمانا في النمسا وروسيا وأسوج وبلاد الإنكليز الذين كانت تعتبرهم اعتبارا عظيما.
[إيت كججك ابنة السلطان أوزبك]
قال ابن بطوطة في رحلته: اسمها "إيت كججك وأيت" (بكسر الهمزة وياء مد وتاء مثناة، وكججك بضم الكاف وضم الجيمين) . وقال: إنه لما كان عند السلطان (أوزبك) طلب منه أن يزور نساءه وبناته وخواص مملكته