وقد أعطاه العرجي جماعة من المغنين وسألهم أن يغنوا فيه, فصنعوا في أبيات منه عدة ألحان وقال: لا أجد لهذه الأمة شيئاً أبلغ من إيقاعها تحت التهمة عند ابن القاسم ليقطع راتبها من ماله, فلما سمع العبلي بالشعر يغنى به أخرج كلابة واتهمها, ثم أرسل بها بعد زمان على بعير إلى مكة فأحلفها بين الركن والمقام إن العرجي كذب فيما قاله فحلفت سبعين يميناً فرضي عنها وردها فكان بعد ذلك إذا سمع قول العرجي: طالما مسني من أهلها النعم قال: كذب والله ما مسه ذلك قط.
[حرف اللام]
[لبنى بنت الحباب الكعبية]
كانت أحسن نساء زمانها وجهاً وأرقهن شمائل, وأعذبهن منطقاً, وألطفهن إشارة. ذات فصاحة وأدب ومعرفة بأشعار العرب وهي صاحبة قيس بن ذريح العذري, رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب.
وكانت سبب علاقته بها أنه ذهب لبعض حاجاته فمر ببني كعب. وقد احتدم الحر, فاستقى الماء من خيمة منهم, فبرزت إليه امرأة مديدة القامة بهية الطلعة, عذبة الكلام, سهلة المنطق, فناولته إداوة ماء, فلما صدر قالت له: ألا تبرد الحر عندنا, وقد تمكنت من فؤاده. فقال: نعم, فمهدت له وطاء واستحضرت ما يحتاج إليه وجاء أبوها, فلما وجده رحب به ونحر له جزوراً وأقام عندهم ضياء اليوم
ثم انصرف وهو أشغف الناس بها فجعل يكتم ذلك ألى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه ومر بها ثانياً, فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من حبها فوجد عندها أضعاف ذلك, فانصرف وقد علم كل واحد ما عند الآخر, فمضى إلى أبيه, فشكا إليه ذلك فقال له: دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك, فغم منه وجاء إلى أمه فكان منها ما كان من أبيه فتركها وجاء إلى الحسين بن علي بي أبي طالب وأخبره بالقضية, فرثى له والتزم أن يكفيه هذا الشأن فمضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك فأجاب فقال: يا ابن رسول الله, لو أرسلت لكفيت بيد أن هذا من أبيه أليق كما هو عند العرب فشكره ومضى إلى أبي قيس حافياً على حر الرمل. فقام ذريح ومرغ وجهه على أقدامه ومشى مع الحسين حتى زوج قيساً بلبنى وأدى الحسين المهر من عنده, ولما تزوجها أقام مدة مديدة على أرفع ما يكون من أحسن الأحوال ومراتب الإقبال وفنون المحبة, ولكن لم تلد لبنى فساء ذلك أبويه فعرضا على قيس أنه يتزوج بمن تجيء بولد, وذلك أحفظ لنفسه وأبقى لماله فامتنع امتناعاً يؤذن باستحالة ذلك وقال: لا أسوءها قط وقام يدافعهما عشر سنين إلى أن أقسم أبوه أن لا يكنه سقف إلا أن يطلق قيس لبنى فكان إذا اشتد الحر يجيؤه فيظله بردائه ويصلي هو بحر الشمس حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقان ويتباكيان وهي تقول له: لا تفعل, فتهلك إلى أن قدر الله وطلقها.
فلما أزمعت الرحيل بعد العدة جاء وقد سأل الجارية عن أمرهم فقالت: سل لبنى فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها ترتحل الليلة أو غدا فسقط مغشياً عليه فلما أفاق أنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ما حان حائن
فلما حملت إلى المدينة يئس قيس واشتد شوقه وزاد غرامه وأفضى به الحال إلى مرض ألزمه الوساد واختلال العقل واشتغال البال فلام الناس أباه على سوء فعله فجزع وندم وجعل يتلطف به, فلما أيس منه