كانت ذات شجاعة وبلاغة عظيمة، وكانت شهدت مع قومها صفين ولها جملة خطب ألقتها في مواقف القتال حتى خيل لمن يسمعها أنها أضغاث أحلام، وبينما معاوية بن أبي سفيان جالس في ديوانه بدمشق بعدما آل الأمر إليه واجتمع حوله حاشيته تذاكروا حرب صفين فقال أحدهم: إنه رأى الزرقاء وهي راكبة على بعير واقفة بين الصفين وهي تحرض الناس على القتال ولم ترهب أحدا من الفريقين· فقال معاوية: أو هي حية إلى الآن؟ فقيل له: نعم، هي مقيمة بالكوفة· فقال: يجب أن نستقدمها إلينا، ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوقرها مع ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاء لينا ويسترها بستر حصين، ويوسع لها في النفقة·فأرسل إليها فأقرأها الكتاب· فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار لي فإني لا آتيه وإن كان حتما فالطاعة أولى، فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به، فلما دخلت علي معاوية قال: مرحبا وأهلا قدمت خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك؟ قال: بخير يا أمير المؤمنين أدام الله لم النعمة· قال: أتدرين فيم بعثنا إليك؟ قالت: إني لا أعلم ما أعلم· قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر الواقفة بين الصفين تحضين على القتال وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبتر الذنب ولم يعد ما ذهب والدهر ذو غير، من تفكر بصر، والأمر يحدث بعده الأمر· قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله لا أحفظه ولقد نسيته· قال: لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين: زيها الناس ارعووا وارجعوا قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلاليب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها فتنة عميا صماء بكماء لا تسمع لناعقها ولا تنساق لقائدها· إن المصباح لا يضيء في الشمس ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه، أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبرا يا معشر المهاجرين على المضض فكان قد اندمل الشتات والتأمت كلمة الحق ودمغ الحق الظلمة، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف وإني ليقضي الله أمرا كان مفعولا، الآن آن الأوان خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم بعده والصبر خير في الأمور عواقبا· أيها في الحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد أشركت عليا في كل دم سفكه· قالت: أحسن الله شاركتك وأدام سلامتك مثلك من يبشر بخير ويسر جليسه قال: أو يسرك ذلك؟ قالت: نعم والله سررت بالخبر فإني لك بتصديق الفعل، فضحك وقال لها: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته اذكري حاجتك· قالت: يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا· ثم انصرفت وبعد ذلك أرسل لها معاوية جائزتها·
[زرقاء اليمامة ابنة مرة الطسمي]
هي أخت رياح بن مرة كانت حادة البصر ليس على وجه الأرض أبصر منها وكانت تبصر الراكب على مسيرة ثلاث ليال، فلما أغار على قومها الملك حسان أحد ملوم اليمن وكان أخوها مع القوم وذلك في خبر طويل، وحين قربوا من اليمامة حذرهم رياح من أخته وأخبرهم بأنها تنظر الراكب من مسيرة كذا ميلا وأمرهم أن يقلعوا الشجر وكل شخص يحمل أمامه شجرة ففعلوا، ثم ساروا، ولما أشرفت من منظرها قالت: يا جديس، لقد سارت إليكم الشجر قالوا لها: ما ذاك؟ قالت: أشجار يسير وراءها شيء وإني لأرى رجلا