مستوحش خائف مستيقن فطن ... كأن في قلبه للنور مصباحا
قال السري: فبينما نحن كذلك إذا بسيدها أقبل فقال للقيم: أين تحفة؟ قال: هي في الداخل، وعندها السري السقطي -رضي الله عنه- ففرح سيدها ودخل وسلم عليه وعظمه فقال له السري: هي أولى بالتعظيم مني فما الذي تكرهه منها حتى حبستها ههنا؟ فقال: أمور كثيرة، وجعل يعدد له خصالها فقال له السري: علي الثمن وأزيدك فصاح سيدها وا فقراه! من أين لك ثمن هذه الجارية وأنت رجل فقير؟ فقال له: لا تعجل دعها في المارستان حتى آتي بثمنها، ثم ذهب باكي العين رأفة على الجارية حتى طرق باب أحمد بن المثنى فأخبره بالخبر، فدفع له ثمنها ومثله معه، فلما كان الغد أقبل إلى المارستان فقال له: قد جئتك بثمن الجارية ومثله معه فقال: لا والله لو أعطيتني الدنيا ما قبلت بل هي حرة لوجه الله تعالى فلما سمعت ذلك بكيت بكاء مرا وأنشأت تقول:
هربت منه إليه ... بكيت منه عليه
وحقه هو مولى ... لا زلت بين يديه
حتى أنال وأحظى ... بما رجوت لديه
وتوجهت إلى مكة وهناك دخلت الكعبة وجعلت تقول:
محب الله في الدنيا سقيم ... تطاول سقمه فدواه داه
سقاه من محبته بكأس ... فأرواه المهيمن غذ سقاه
فهام بحبه وسما إليه ... فليس يريد محبوبا سواه
كذاك من ادعى شوقا إليه يهيم بحبه حتى يراه
ثم مكثت على ذلك مدة وهي بين الخوف والرجاء إلى أن توفاها الله بمكة المكرمة وبعدما خرجت من المارستان سأل السري السقطي مولاها عن سبب عتقه لها وعدم قبوله ثمنها بعدما كان مشددا على لزوم استلام الثمن إن وجد من يدفعه إليه ولما عرض عليه ازدراه واستهزأ بقوله ظانا أنه لا يقدر على ثمنها فقال له مولى الجارية أنه بعدما حصل منه ذلك راجع صوابه وقال: إن السري السقطي مع ضيق ذات يديه وعدم اقتداره على ثمن جارية مثل هذه تعهد بأن يستحضر ثمنها ولا بد ذلك أن يكون من أهل الخير وليس هم بأكرم مني حالة كوني قادرا على عمل الخير بدون أن يحصل لي ضرر وغلب على الكرم ففعلت ما فعلت وأرجوك الدعاء فدعا له السري بإصلاح حاله، وبزيادة البركة في ماله، وتصدق بثمن الجارية الذي استحضره من أحمد بن المثنى المار ذكره.
[تذكارباي خاتون]
هي ابنة الظاهر "بيبرس" كانت تقية صالحة محبة للخير مقربة للفقراء، وأخصهن النساء الصالحات حتى إنها من محبتها لهن بنت لهن رباطا وسمته برباط البغدادية، وصفه المقريزي بقوله: إن هذا الرباط بداخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه "بيبرس" حيث كان المتجر ومن الناس من يقول: رواق البغدادية وهذا الرباط بنته الست الجليلة "تذكارباي خاتون" ابنة الملك الظاهر "بيبرس" في سنة ٦٨٤ هـ للشيخة الصالحة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية فأنزلتها به، ومعها النساء الخيرات وما برح إلى وقتنا هذا (أي وقت المقريزي)