كانت جامعة بين أجلّ طبقات الغناء والجمال وأسمى مراتب العفاف والكمال، وقورة السمت، رخيمة الصوت، بهية الشارة، فتانة الملامح، رزينة الحصاة، عذبة الكلام، وجيزة العبارة. أجمع مجيدو عصرها - مثل: الغريض وابن سريج وابن محرز ومعبد بن جامع وحيابة وابن عائشة وسلامة وزمين وخليدة وعقيلة العقيقية - على كونها إمام هذا الفن ومجلي مضمار السبق فيه شرقاً وغرباً بين الإنس والجن.
وكان معبد يقول: لم لم تكن جميلة لم نكن نحن مغنين، ولطالما تحاكم لديها أولو الفن المجيدون من مكيين ومدنيين وبصريين، فقضت بينهم قضاءً آخذاً بناصية الأنصاف مأموناً به جانب الحيف والإجحاف، قيل: حجت ذات سنة فخرج إلى لقائها كبراء مكة وساداتها، ومشاهير مغنيها وقيناتها فكثر الزحام وازدحمت في أرجاء الحرم الأقدام، والتفت الساق على الساق، حتى كأنه يوم التلاق، ولما انقضى الحج اقترح عليها الأمراء وعقد مجلس للغناء فقالت: ما كنت يا ذوي الفضل لأخلط الجد بالهزل.
ثم عادت إلى يثرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلها سراتها وأشرافها يتقدهم الأطفال والنساء، وكان قد صحبها قوم من غزز مكة وأعيانها، فلما حلت دارها أتاها الجميع مهنئين باللطف والإيناس فغصت الساحات والسطوح بتخليط الناس، واصطف المغنون طبقتين متناوحتين، فكان كلما دمدمت وشدت علا من الخلق ضجيج ينطح به عنان السماء، وأذن السمع صماء الكل يقول: ما رأينا ولا سمعنا بمثل هذا، ثم اقترحت على المغنين أن يهذبوا شفعاً ووتراً، ففعلوا، فكانت تصلح لكل أغلاطه وتريه وجه الإصابة من الطرب طريقاً حتى أبهتت الناس عجباً، وحيرتهم وأبكتهم طرباً وصبابة، فانصرفوا يقولون: اللهم غفراً، فسبحان من جعلها في كل معنى غاية إنه ولي التوفيق.
[جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصارية]
هي أخت عاصم بن ثابت امرأة عمر بن الخطاب تكنى أم عاصم بابنها عاصم بن عمر بن الخطاب سمته باسم أخيها وكان اسمها عاصية، فلما أسلمت سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة، تزوجها عمر سنة ٧ من الهجرة فولدت عاصماً، ثم طلقها عمر بتزوجها يزيد بن حارثة، فولدت له الرحمن بن يزيد فهو أخو عاصم لأمه.
وقيل: إن عمر ركب إلى قبيلتها فوجد ابنه عاصماً يلعب مع الصبيان فحمله بين يديه، فزدركته جدته الشموس بنت أبي عامر فنازعته إياه حتى انتهى إلى أبي بكر الصديق فقال له أبو بكر: خل بينه وبينها فما راجعه وسلمه إليها لكونها حاضنته وكانت جميلة إذ ذاك متزوجة بيزيد بن حارثة.
[جنان جارية عبد الوهاب الثقفي]
كانت بمنزلة عظيمة من الحب عند أبي نواس ويقال: إنه لم يصدق بحب امرأة غيرها وكانت حسناء أديبة عاقلة ظريفة تعرف الأخبار وتروي الأشعار. رآها أبو نواس بالبصرة عند مولاها المذكور فاستحلاها وقال فيها أشعاراً كثيرة، وقيل له يوماً: إن جنان عزمت على الحج فقال: إني سأحج على هذا إن أقامت على عزيمتها فلما علم أنها خارجة سبقها، وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه إلا خروجها وقال لما عاد من حجه: