صرت غليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها ثم البس حلتي هذه واشققها ثم اعل على شرف وصح بهذه الأبيات وخلاك ذم ثم أنشدني هذه الأبيات:
صدع النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل ... وابكي خليلك دون كل خليل
قال: فلما قضى وواريته أتيت رهط بثينة ففعلت ما أمرني به جميل, فما استتمت الأبيات حتى برزت إلي امرأة يتبعها نسوة قد فرعتهن طولا, وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دجنة وهي تتعثر في مرطها حتى أتتني فقالت: يا هذا والله لئن كنت صادقا لقد قتلتني, ولئن كنت كاذبا لقد فضحتني. قلت: والله ما أنا إلا صادق وأخرجت حلته فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشيا عليها ساعة ثم قامت وهي تقول:
وإن سلوي عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
وقيل: إنها كررت هذين البيتين حتى ماتت بعد ثلاثة أيام من سماعها بموت جميل, وله فيها أشعار كثيرة ولو أنه لم يقل فيها سوى البيتين لكفاها شهرة وفخرا وهما قوله من قصيدة طويلة هي من ضمن أشعاره:
هي البدر حسنا والنساء كواكب ... وشتان ما بين الكواكب والبدر
لقد فضلت بثن على الناس مثل ما ... على ألف شهر فضلت ليلة القدر
[بثينة ابنة المعتمد بن عباد]
أمها الرميكية كانت بثينة هذه نحوا من أمها في الجمال والنادرة ونظم الشعر, ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت في جملة من سبي ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في وله دائم لا يعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما وكان أحد تجار "إشبيلية" اشتراها على أنها جارية ووهبها لابنه فنظر في شأنها وهيئت له فأراد الدخول عليها فامتنعت وأظهرت نسبها, وقالت: لا أحل لك إلا بعقد وإن أذنت بمخاطبة والدي بذلك فعلت وإني أحب أن أكون قرينتك في سنة الله تعالى, فوقع عنده كلامها موقعا عظيما وداخله سرور زائد لكونه صاهر المعتمد بن عباد وإن كان في نكبته وأذن لها بما أرادت فكتبت لأبيها تستأذنه وكان الذي كتبته بخطها ما صورته:
اسمع كلامي واستمع لمقالتي ... فهي السلوك بدت من الأجياد
لا تنكروا أني سبيت وأنني ... بنت لملك من بني عباد
ملك عظيم قد تولى عصره ... وكذا الزمان يؤل للإفساد
لما أراد الله فرقة شملنا ... وأذاقنا طعم الأسى من زاد
قام النفاق على أبي في ملكه ... فدنا الفراق ولم يكن بمرادي
فخرجت هاربة فأعجزني امرؤ ... لم يأت في إعجازه بسداد
إذ باعني بيع العبيد فضمني ... من صانني إلا من الأنكاد