[فكيهة جارية أحيحة بن الجلاح]
كانت أحسن الناس صوتاً في زمانها وأعلمهم في ضروب الغناء وأنواعه وكانت قينات المدينة يأخذن عنها فنون هذا العلم ومن حسن صوتها قد افتتن بها كثير من النساء والشبان، ولها حكاية مع تبع لطيفة نذكرها لحسن موقعها وثبات جأش تلك الجارية وهي: أن تبعاً أبا كرب بن حسان بن سعد الحميري كان سائراً من اليمن يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل قبله، فمر بالمدينة فخلف بها ابنا له ومضى حتى قدم الشام ثم سار من الشام حتى قدم العراق فنزل بالمشقر فقتل ابنه غيلة بالمدينة، فبلغه وهو بالمشقر فكر راجعاً إلى المدينة وهو يقول:
يا ذا المعاهد لا تزال ترود ... رمد بعينك عادها أم عود
منع الرقاد فما أغمض ساعة ... نبط بيثرب آمنون قعود
لا تسقي بيديك إن لم تلقها ... حربا كأن أشاءها مجرود
ثم اقبل حتى دخل المدينة وهو مجمع على خرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية فنزل بسفح أحد فاحتقر بها بئرا وهي البئر التي يقال لها إلى اليوم بئر الملك، ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوا فكان فيمن أرسل إليه زيد بن أمية بن زيد وابن عمه زيد بن ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف، وابن عمه زيد بن أمية بن زيد، وابن عمه زيد بن عبيد بن زيد -وكانوا يسمون الأزياد، وأحيحة بن الجلاح، فلما جاء رسوله قال الأزياد: إنما أرسل إلينا ليملكنا على أهل يثرب.
فقال أحيحة: والله ما دعاكم لخير. وقال: ليت حظي من أبي كرب أن يرد خبره جبله فذهبت مثلا، فخرجوا إليه وخرج أحيحة ومعه فكيهة جاريته وخباء وخمر، فضرب الخباء وجعل فيه الجارية والخمر.
ثم خرج حتى استأذن على تبع فأذن له وأجلسه معه على زريبة تحته وتحدث معه وسأله عن أمواله بالمدينة، فجعل يخبره عنها، وجعل تبع كلما أخبره عن شيء منها يقول كل ذلك على هذه الزريبة يريد بذلك تبع قتل أحيحة، ففطن أحيحة أنه يريد قتله فخرج من عنده فدخل خباءه فشرب الخمر وقرض أبياتاً وأمر فكيهة أن تغنيه بها، وجعل تبع عليه حرسا والأبيات هي:
يشتاق شوقي على فكيهة لو ... أمست قريبا ممن يطالبها
لتبكني فينه ومزهرها ... ولتبكني قهوة وشاربها
ولتبكي ناقة إذا رحلت ... وغاب في سردح مناكبها
ولتبكني عصبة إذا جمعت ... لم يعلم الناس ما عواقبها
فلم تزل فكيهة تغنيه يومه وعامة ليلته، فلما نام الحرس قال لها: إني ذاهب إلى أهلي فسدي علك الخباء فإذا جاء رسول الملك فقولي هو نائم فإذا أبوا غلا أن يوقظوني فقولي: قد رجع على أهله وأرسلني على الملك برسالة، فإذا ذهبوا بك إليه فقولي له يقول لك أحيحة أغدر بقينة أو دع، ثم انطلق فتحصن في أطمه الضحيان وأرسل تبع من جوف الليل إلى الأزياد فقتلهم على قفارة من قفار تلك الحرة، وأرسل إلى أحيحة ليقتله فخرجت إليهم فكيهة فقالت: هو راقد فانصرفوا وترددوا عليعا مرارا، كل ذلك تقول هو راقد، ثم عاودوا فقالوا: لتوقظنه أو لندخلن عليك.
قالت: فإنه قد رجع على أهله وأرسلني إلى الملك برسالة فذهبوا بها إلى الملك، فلما دخلت عليه سألها عنه فأخبرته خبره وقالت: يقول لك: اغدر يقينه أو دع. فذهبت كلمة أحيحة هذه مثلا فجرد له كثيبة من خيله، ثم أرسلهم في طلبه فوجدوه قد تحصن في أطمه، فحاصروه ثلاثا يقاتلهم