هو أثقل عليه منك فأكرمته ورأت ما أعجبها من حزمه وحذقه ودرايته ومعرفته بأمور الملك فلما عرف أنها قد وثقت به قال: إن لي بالعراق أموالا كثيرة ولي بها طرائف وعطر فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليك من طرائفها ومن صنوف ما يكون بها من التجارة فتصيبين أرباحا وبعض ما لا يكون للملوك غنى عنه فأذنته ودفعت إليه أموالا، وجهزت معه الدواب، فسار حتى قدم العراق وأتي عمرو بن عدي مختفيا وأخبره الخبر· وقال: جهزني بصنوف البز والطرف لعل الله يمكننا من الزباء فتصيب منها ثأرك فأعطاه ما طلب وعاد به إلى الزباء فأعجبها ذلك كثيرا وزادت بقصير ثقتها ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى فسار إلى العراق ولم يدع طرفه الأقادم بها عليها حتى تعجبت منه، ثم عاد الثالثة وقال لعمرو: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيئ لهم الغرائر (وهي كالصناديق كان هو أول من اخترعها) فلما تهيأت جعل كل رجلين في غرارتين على ظهر بعير وجعل معقد رؤوسهما من باطنهما وقال لعمرو: إذا وصلنا أقمتك على باب باب السرب، ثم أخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قاتلوه وإن أقبلت هي إلى سربها قتلتها أنت، فلما تم ذلك، سار قصير مجدا حتى إذا قرب سبق إليها وبشرها بكثرة ما حمل إليها من المال والتحف والثياب وكان المسير في الليل ويكمن في النهار لراحة القوم فأشرفت الزباء من قصرها أبصرت الإبل مثقلة بالأحمال تسير الهوينا وتكاد قوائمها تسوخ في الأرض فقالت: يا قصير:
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفانا تأرزا شديدا ... زم الرجال جثما قعودا
ثم دخلت الإبل المدينة فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر ودخل عمرو على باب السرب ثم وضعوا السيف في أهل البلد وأقبلت الزباء تريد الخروج من السرب، فلما أبصرت عمرا عرفته بالصورة فمضت سما كان بخاتمها وقالت: بيدي لا بيد عمرو وتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة، ثم رجع إلى العراق وجلس على سرير الملك بعد خاله جذيمة·
[الزرقاء جايرة بن رامين]
كانت من المشهورات بالجمال والحسن والغناء وافتتن بها غالب أهل زمانها، وكان الناس يقصدونها لسماع صوتها، ويبذلون لها مالا خطيرا فاشتد ولوع يزيد بن عون الصيرفي بها فدخل عليها ومعه لؤلؤتان فقال لها: قد بذل لي فيهما أربعون ألف درهم· فقالت: هبهما لي· فقال: افعل إن شئت· قالت: شئت، فحلف لا يعطيهما لها إلا من فمه إلى فمها، فغمزت الخادم، فخرج وكان يزيد واقفا متكسرا بين يديها كاتفا يديه فجلس أمامها وتقدم إليها، فأقبلت لتنالهما، فجعل يروغ بفمه ليستكثر من مقابلتها فانقضت عليه فأخذتهما وقالت: من هو المغلوب منا· فقال: والله لا يزال طيب هذه الرائحة في فمي ما حييت أبدا·
ولما أفضت إلى جعفر بن سليمان وأبوه عامل المنصور على البصرة، فدخل على ابنه يعتبه على شرائها واشتغاله بها في هذه الأيام، وقد خرج عليهم خارجي فغمز جعفر الخادم فأخرجها إليه، فبهت من جمال طلعتها وحلاوة منطقها فرضي ولم يعتب بعدها أبدا، وقال للزرقاء يوما: هل تمكن أحد من محبيك منك بشيء؟ فخشيت أن تكتمه ما عساه أن يكون بلغه فأخبرته بموافقة الصيرفي، فاحتال عليه حتى حصل عنده فضربه حتى مات وبقيت الزرقاء عنده في عز وجاه إلى أن ماتت·