أما هي فلم تكن تنسى المحتاجين والحزانى مع ما وصلت إليه من السلطنة والسؤدد، بل كانت دائما مستعدة لمساعدة كل من طلب مساعدتها سواء كان بمالها أو بكلامها حتى كانت تتهم أحيانا بالتبذير والإسراف، وكانت تحب مرافقة "نابوليون" في أسفاره، وهو أيضا كان يرغب مرافقتها لا، ها كانت الشخص الوحيد الذي يوثق به، ومرة وعدها بمرافقته في إحدى سفراته ولكن الأحوال أحوجته إلى الذهاب سرا فأمر بإعداد لوازم السفر.
وفي الساعة الأولى بعد نصف الليل وهو الوقت الذي ظن أن "جوزفين" تكون فيه مستغرقة في النوم قصد الذهاب، ولكنه لم يصل إلى العجلة حتى كانت "جوزفين" بين يديه، فأمر بإعداد لوازمها في الحال وذهبا معا إلى إسبانيا، فأخضع "نابوليون" إسبانيا تحت طاعته وملأها من العساكر الفرنسوية وولى أخاه "لويس" عليها، ثم قفل راجعا على فرنسا، ولكن لم يلبث طويلا حتى أتته الاخبار أن الإسبانيين طردوا أخاه من العاصمة بمساعي الإنكليز وقتلوا كثيرين من الفرنسويين القاطنين هناك. فرجع مسرعا إلى إسبانيا وفي هذا الوقت أيضا طلبت "جوزفين" الإتيان معه، ولكنه لم يسمح لها ذلك بل دخل مدريد عاصمة البلاد وأرجع أخاه إلى مقامه وثبت حكمه فيها ورجع ثانيا إلى فرنسا.
[وكانت آمال "نابوليون" و"جوزفين" في ذلك الوقت معلقة بالاير الصغير ابن "لويس" و"هورتنس"، وشاع في كل فرنسا وهولندا أنه سيكون صاحب الملك من بعد عمه.]
ولكن في ربيع سنة ١٨٠٧م بينما كان "نابوليون" يحارب "بروسيا" وهو منتصر عليها انتصارا عظيما أصاب الولد داء الخناق ومات في ساعات قليلة وكان له من العمر خمس سنوات فحزنت "جوزفين" لفقده حزنا عظيما ورجعت إلى مخاوفها القديمة لأنها كانت تعرف "نابوليون" وتعرف رغبته في أن يكون له وارث يترك الملك له وكانت فرائصها ترتعد كلما افتكرت مرارة تلك الكأس التي كان لا بد لها من تجرعها، وقد بقيت مدة ثلاثة أيام منفردة في غرفتها بلا أكل ولا نوم، تسكب الدموع على عظم مصيبتها.
أما "نابوليون" فلما وصلت إليه هذه الأخبار المحزنة كان في أوج انتصاره إذ كان قد قهر جميع أعدائه وأخضع "بروسيا" تحت طاعته وكان جميع ملوك أوروبا مستعدين لإتمام أوامره، فلما سمع هذه الأخبار جلس ساكتا وارتفق بيده على وجهه، وسمع وهو في حزنه الشديد يقول لنفسه المرة بعد الأخرى: "لمن أترك كل هذا؟ " وكان يتنازع أفكاره عاملان قويان محبة "جوزفين" من جانب ومحبة المجد واشتهاء أن يكون له ولد يرث اسمه وشهرته من جانب آخر. وبقي مدة على هذه الحال ولا يذوق طعاما ولا يغمض له جفن، ولكن رغبته في كسب المجد واعتقاده أنه أوصل فرنسا إلى درجة لم تصل إليها مملكة على وجه الأرض فينبغي أن يخلف من يرثها من نسله جعلاه يضحي بكل سعادته وراحته ويفقد سلامة الذوق، ويحل قوى ربط المحبة وكانت "جوزفين" تعرف زوجها جيداً، فكانت بالخوف والرعب تنتظر قدومه وكانت تقضي أكثر أوقاتها بالنوح والبكاء، وكان أحيانا كثيرة يصدر في الجرائد كلاما في شأن طلاقها واقتران "نابوليون" بإحدى بنات الأسرة الملكية.
وفي تشرين الأول "أكتوبر" سنة ١٨٠٧م رجع "نابوليون" من (فيينا) فسلم على "جوزفين" بمزيد اللطافة.
أما هي فلاحظت في الحال أنه كان قلقا في فكره، وأنه كان حينئذ يشتغل بهذه المسألة وكثيرا كان يجتمع بوزرائه سرا، فلاحظ رجال البلاط ذلك وكانوا قليلي الكلام، وكان "نابوليون" لا يكثر أن يلتفت إلى امرأته لأنه خاف أنه إذا التفت إلى التي أحبها هذا الحب العظيم يتغير فكره، وكانت "جوزفين" قلقة جدا من هذا القبيل ولكنها اجتهدت في اخفاء عواطفها، وكانت تلاحظ حركات "نابوليون" وسكناته، فترى في كل يوم أمرا جديدا يؤكد لها