من وراء شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا فكذبوها وكان ذلك كما ذكرت فغفلوا عن أخذ أهبة الحرب ففي ذلك تقول الزرقاء لجديس تحذرهم:
إني أرى شجرا منخلفها بشر ... فكيف يجتمع الأشجار والبشر
سيروا بأجمعكم في وجه أولهم ... فإن ذلك منكم فاعلموا الظفر
فلم يسمعوا لها وهجم عليهم الملك حسان بحمير فأفناهم وشتت شملهم، فلما فرغ حسان من جديس دعا باليمامة بنت مرة فأمر بها، فنزعت عيناها، فإذا هي داخلها عروق سود، فسألها عن ذلك فقالت: حجر أسود -يقال له الإثمد- كنت أكتحل به فنشب إلى بصري وكانت أول من اكتحل به فاتخذوه بعد ذلك كحلا، وأمر الملك باليمامة فصلبت على باب خيمتها -وهو اسم البلد الذي كانت جديس مقيمة فيها- وسميت الزرقاء المذكورة باسمها.
[زليخا امرأة قطفير عزيز مصر]
قيل: 'نم اسمها راعيل ابنة عابيل، وقيل: اسمها بكا ابنة فيوش وأكثر التواريخ أن اسمها زليخا.
كان والدها من أولاد ملوك القبط الذين حكموا مصر قبل دخول العرب الذين سماهم المؤرخون ملوك الرعاة. كانت زليخا رأت في نومها أنها ستكون ملكة على مصر وأن القمر صار تاجا لها ولبسته يوم توليتها على عرش المملكة فقيل لها: إنها ستتزوج بملك مصر، ومضى على ذلك أيام وليال، ولم يظهر لمنامها تأثير حتى إنها تزوجت بقطفير عزيز مصر الذي كان بذاك الزمان محافظا على البلد من قبل ملكها وظنت أن منامها كان أغاث أحلام فصرفت أفكارها عما رأت.
وفي أثناء ذلك دخلت العرب إلى مصر واستولت عليها وأبقت من دخلوا تحت الطاعة في الأحكام مثل قطفير وخلافه، وبذلك صارت زليخا مسموعة الكلمة مطاعة الأوامر، مقبولة الرجاء عند ملوك الرعاة ولم تطلب أمرا إلا تجاب عليه وبقيت تحت قطفير حتى قيض الله لها يوسف بصفة عبد جاءت به التجار وصارت عليه المزايدة حتى رسا مزاده على قطفير زوج زليخا فأخذه إلهيا وأمرها بإكرامه، فأخذته إليها وأكرمت مثواه إكراما لا مزيد عليه حتى جعلته بمثابة أولاد الملوك وكانت تلبسه الديباج وقراطق الحرير وتوقفه على رأسها وتأمره بما تريد من أمرها، ولما تفرس العزيز في يوسف الخير والصلاح لم ينزله منزلة العبيد بل قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهو يومئذ ابن سبع سنين. وقيل: سبع عشرة سنة فكانت زليخا تمشط شعره بيدها وتخدمه بنفسها ومازالت زليخا في كل يوم تحسن إلى يوسف وتتولى أمره حتى مال قلبها إليه وتكاثر وجدها وهو مع ذلك لا يلتفت إليها بعينه حياء من ربه ولا ينظر إليها حتى تكاثر همها ودق عظمها وكابدها الشجون وواصلها النحول.
فلما عيل صبرها وضاق صدرها دخلت حاضنتها. فقالت لها: يا سيدتي، أرى غصنك ذابلا وجسدك ناحلا، وقلبك مائلا فقالت لها: وكيف لا وأنا أخدم هذا الغلام منذ سبع سنين ألاطفه بلساني وأتحبب إليه بإحساني، وكلما زدت ميلا إليه زاد إعراضا عني وكلما قربت منه تباعد مني. فقالت الحاضنة: يا سيدتي، لو نظر إليك لكان أسرع إليك منك إليه، ولو نظر إلى حسنك وجمالك وصفاء لونك لما قر له قرار دونك فقالت لها: وكيف لي به؟ قالت لها: مكنيني من الأموال، فقالت: ها خزائني بين يديك خذي منها ما شئت ودعي ما شئت لا حساب عليك في ذلك، فتمكنت من الأموال ودعت أهل البناء والهندسة وقالت: أريد بيتا ترى الوجوه في سقفه وحائط كما ترى في المرآة المصقولة فأجابوا بالسمع والطاعة