أوصتها أن تذهب إلى منزلنا، وإنها على أمل تام من أنها ستلاقي فيه مطلق الحرية.
[ثم زادت على ذلك بأن مدام (ر.) وإن كانت إنكليزية المحتد والنشأة إلا أنها عارفة بعدة لغات، وهي تعرف اللغة الفرنسوية، كما تعرف لغتها وأنه لا يمكن أن تجعل لنا ثقلة من التكلم معها واختتمت كتابها بقولها إن مدام ر. المومى إليها الحرية بأن تدعى فيلسوفة وإنه ليس في هذا الوصف مغالاة على الإطلاق وحيث عن الشخص الذي أحضر الكتاب كان لا يزال في انتظار الجواب بلغته أن يخبر المدام المومى إليها أن تتفضل لزيارتنا في اليوم الثاني وأن تؤانسنا بمناولة طعام الإفطار معنا.]
وفي اليوم - المذكور - وفد على منزلنا عدد من ذوي قربانا للإفطار وذلك جريا على العادة المألوفة في شهر رمضان من التزاور الذي يحصل بين الأهل والأقرباء وبينما كنا جالسين في القاعة قبيل الساعة الحادية عشرة من النهار دخلت علينا جارية، فقالت: أنبئت من الخارج أن المدام قد أتت وأنها على أهبة الدخول إلى فناء الدار.
وما كادت تتم عبارتها حتى نهضت مسرعة لاستقبال الضيفة المومى إليها وقد كنت أظن مما اقتبسته من رواية صاحبة الكتاب أنني فيلسوفة طاعنة في السن فإذا بي أرى غيداء حسناء لا تتجاوز الثلاثين من العمر، وكانت هذه المدام مرتدية بلباس في غاية الحسن، وملقية على كتفيها شتوية موافقة لآخر زي ولائقة بأعظم الزيارات. وعند مقابلتي إياها رفعت قبعتها عن رأسها فتجلى للعيان شعرها المعقود بيد أمهر المواشط، وكان مجموعا في أم رأسها بطريقة تستجلب الأنظار.
لا جرم أن كتابة صاحبة الكتاب السابق الإيماء إليها كانت تحملني على الاعتقاد بأن الفيلسوفة التي سأراها في دار السعادة يجب أن تكون من النساء المسنات اللاتي لا تهمهن الزينة ولا يعتنين بالأزياء. ولكنني بعد أن تمكنت من معرفة مدام ر.... علمت أنها ليست من الجاهلات اللواتي بيضت المطاحن شعورهن وإنما هي قد تلقت العلوم والفنون منذ سن الصبا عن والدها الذي يعد من عشاق العلم والمعارف وأنها ما فتئت إلى الآن صارفة قصارى جهدها وجدها إلى اقتباس الآداب، فما وصلت إلى الثلاثين من عمرها حتى كانت قد صرفت معظمه في سبيل التحصيل وبلغت شأوا رفيعا في التهذيب وثبت عندي مما رايته فيها من الميل والاجتهاد إلى الوقوف والاطلاع على جميع ما تعرفه دون الطفيف وأن الطواحين لن تبيض شعرها الذي لا يزال غير مبيض، ولا يمكن أن تصل أوقاتها بالبطالة وأنها ستصرف بقة عمرها في طلب المعارف وتحصيل العلوم والفنون كما صرفته إلى هذا الوقت فكانت حرية بأن يطلق عليها اسم الفاضلة، وأما إتقانها للزينة وتغاليها في الكسوة وترتيب شعرها فلم يكن إلا لأجل المحافظة على شرف اسمها وعنوانها بين قريناتها ولكي لا يمزق عرضها الناقدون وينسبوا إليها الخسة والبخل مع ما هي عليه من الثروة العظيمة.
والغريب أن هذه المدام ليست من النساء اللاتي يحملن جمالهن على الكبر والغرور فإنها كانت كأنها لا تعرف هذا الجمال ولا تنظر إليه بل لا تهتم به، وإنما كانت تنظر إلى جمال طبيعتها وأخلاقها وأغرب من ذلك أن هاته الحسناء التي هامت بالعلم وتيمها عشقه ولم يكن في قلبها أدنى فراغ يسع غيره قد اقترنت برجل هو في سن والدها لأنها قد سلبت بعلمه وعشقت فضله، وكان هذا الزوج العالم واسع الثروة فتمكنت بواسطة ذلك من تحصيل سائر العلوم ووقفت على جملة أشياء، ولما كانت راغبة في أن تشرك حاسة النظر بحاسة الإدراك وان تشاهد بأم