فغنته فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه فشغف بها وأحبها هي أيضا، وكان شابا جميلا وكثر تردده على منزل مولاها.
فقالت له يوما على خلوة أنا والله أحبك قال: وأنا والله أحبك. قالت: أحب أن أقبلك قال وأنا والله كذلك. قالت: أحب أن أضع بطني على بطن. قال: وأنا والله. قالت: فما يمنعك؟ قال: قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) (الزخرف: ٦٧) وأنا أكره أن تؤل خلتنا إلى عداوة، ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته وله فيها أشعار منها:
ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا طربت في صوتها كيف تصنع
تمد نظام القول ثم ترده ... إلى صلصل من صوتها يترجع
وله فيها: ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر=وهل أنت يوما عن سلامة مقصر
ألا ليت أني حيث سارت بها النوى ... جليس لسلمى كلما عج مزهر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ... يطير إليها قلبه حين ينظر
فلذلك قيل لها سلامة القس.
وكانت أخذت الغناء عن معبد وتعلمت منه جملة أصوات وكان يريدها ويقدمها على غيرها من مولدات المدينة، ولذلك لما مات عظم موته عندها فجاءت في مشهده، وصارت تفرق الناس حتى قربت من النعش وقد أضرب الناس عنه ينظرون إليها وقد أخذت بعمود السرير وهي تبكي وتقول:
قد لعمري بت ليلى ... كأخي الداء الوجيع
ونجي الهم مني ... بات أدنى من ضجيعي
كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعي
قد خلا من سيد كا ... ن لنا غير مضيع
لا تلمنا إن خشينا أو هممنا بخشوع
وكان يزيد أمر معبدا أن يعلمها هذا الصوت فعلمها إياه فندبته به يومئذ وكانت لها مناظرات ومحاورات ومجالس أنس مع حبابة، ويزيد لم يسبق لأمثالهم من الخلفاء والملوك ولم يصل أحد إلى ما وصلوا إليه.
[سميراميس ملكة أشور]
كانت أجمل أقرانها وأشجع أهل زمانها. وليت العرش بعد زوجها فينوس فكان من همها تحسين مدينة بابل، فشادت بها الهياكل العظيمة، وأنشأت القصور المزخرفة، وغرست الرياض والبساتين، واحتفرت الترع والخلجان، ومدت عليها المعابر والقناطر، وبنت في ساحة المدينة هيكل بور إله الأشوريين، وأقامت فيه تمثالا ذهبيا طوله ٤٠ قدما، وكان هذا الهيكل أعظم بناء قام به البشر بلغ ارتفاعه ٦٦٠ قدما أعلى من الهرم المصري الأكبر، قال عنه هيرودوتوس المؤرخ: إنه مربع الشكل مساحته ٤٠٠ ذراع في وسطه برج يرتفع نحو ٦٠٠ قدم ويعلوه سبعة أبراج علو كل منها ٧٥ قدما، وفي البرج الخير مسجد فيه تمثال من ذهب وبقربه مائدة ومنصة ذهبيتان ثمنهما نحو ٢٥٥ مليونا، وفي فناء هذا المسجد مذبحان أحدهما ذهبي يوقد عليه في كل عيد ٣٠٠٠ أقة بخور.
وبالجملة فإن هذه الملكة هي التي أحيت لبابل رونقها المذكور، وبهاءها المأثور، وهي التي أولتها تلك العظمة والشهرة بيد أنها لم تكتف بما اكسبها سعيها هذا