على معلومات كثيرة كان يلزم أن أطالع عدة كتب حتى أتمكن من الحصول عليها فأبثك أيتها المادام شكري وأعلن امتناني الحقيقي.
قالت المادام: سيبقى أثر هاته الليلة وأثر الاجتماع بك ثانيا في الذهن إلى ما شاء الله. قالت هذه العبارة الأخيرة ثم ودعتني وذهبت في عجلتها.
على أنني وإن كنت لا أعرف ما إذا كانت تحافظ حقيقة على الذكرى كما قالت قد شعرت بتأثير كلماتها في قلبي فإنني لا أزال أهز بذكرى تلك الليلة وأفتكر بمحادثتنا غير أنني لم آخذ منها حتى الآن كتابا, وقد علمت أنها ذهبت للتسوح في البلاد العربية, وسمعت أنها ستضع كتابا في سياحتها, فلا ريب أن هذا الكتاب سيكون مجمعا للحقائق, وهذا متوقف على إتمام السياحة ومتعلق بالتوفيق الإلهي.
[المحاورة الثالثة]
إن شهر مايس (نوار, أو أيار) بغاية اللطف والنشاط فهو متوسط بين حر الصيف وبرد الشتاء بمعنى أن حره أقل من حر الصيف وبرده أخف من برد الشتاء، ففي مثل هذا الشهر الذي انتشرت به الروائح الزكية وضاعت أرواح الأزهار المتنوعة كنت جالسة صباح يوم منه في إحدى عرف البستان وكانت نوافذ الغرفة مفتوحة يدخل منها ألطف الروائح العطرية التي تشبه المسك أستغفر الله إنني لم أحسن الوصف والتمثيل، فشتان بين تلك الرائحة وبين رائحة المسك التي قد توجب لبعض الناس سروراً ولبعضهم كدراً في حين أن رائحة الورد والقرنفل والياسمين وما ماثل من الأزهار التي كانت منتشرة في أرض الجنينة وفي جدرانها يتضوع منها أريج ينعش الأرواح، ورائحة الأشجار التي كانت قريبة من نوافذ الغرفة وأزهارها الناصعة البياض كل هاته الروائح الزكية كانت تفوق بنشرها على رائحة المسك، ومع هذا فإن رائحة كل فصيلة منها تختلف عن الأخرى فلم يكن ثمة مشابهة بينها الإطلاق، حتى أن رائحة الجنس الواحد منها كانت تختلف باختلاف أشكاله بين الأصفر والأحمر والأبيض، وهكذا يقال عن سائر أنواع الأزهار. وفي ذلك حكمة صمدانية تدق على الأفهام أما البلابل فكانت في صباح اليوم -المذكور- تطرب الجماد بنغماتها الشجية وتغرد تغريداً ترقص له القلوب في الصدور فتردد بأصواتها المطربة ما يمثل حالة العاشق الذي يطارح معشوقه كلمات الحب حتى إذا لم ينل منه جواباً ظهرت في عنقه إشارات الذل والانكسار.
وجملة القول: إن روائح الأزهار المتنوعة، وأصوات البلابل، ومناظر الأشجار المنتشرة في البستان كانت تشترك بلذتها حاستا السمع والنظر.
وعلى مثل ما تقدم وصفه كانت هذه العاجزة جالسة حوالى منفذة يحيط بها اثنتان من صويحباتي لمناولة قهوة البن بالحليب، وكانت إحداهما تدعى ص.. خانم، أما هذه السيدة فإنها تحسن اللغة الإنكليزية وتعرف قليلاً من الفرنسية بمعنى أنها تفهم هذه اللغة ولكن ببطء، وتتكلم ولكن بصعوبة، وتكتب باللغة التركية بدرجة تتمكن بها من التعبير عن فكرها وإفهام مرادها، والسبب في تضلعها في اللغة الإنكليزية زيادة عن اللغة التركية إنما كان منشؤه مربيتها التي كانت إنكليزية المتحد ولأجل ذلك تلقت منذ الصغر عنها اللغة الإنكليزية فأتقنتها كل الإتقان، فكانت أخلاق هاته السيدة قريبة من أخلاق الإنكليز إذ إن للتربية تأثير كلياً في الأخلاق كما لا يخفى، فكانت منزهة عن شوائب الكلفة تحب الصحة