للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:
فهرس الكتاب حرف الفاء وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها.

أما المادام فقد استيقظت على صوت محاورتنا فهبت من بحراتها وأخذت تلتفت ذات اليمين وذات الشمال فلم تر غير الجارية إذ إن رفيقاتنا كن خرجن وأبقيننا وحدنا. فقالت: لقد ضاقت صدورهن من سكرتنا فتفرقن وتركننا منفردتين, فما هاته الحال الغريبة؟ لا جرم أنه ليس من أحد يرضى عمن يكونون في حالة الصمت والراقدون لا يرون أحدا عندهم, وقد تذكرنا حال الرقاد بحالتنا أوان الموت. وفي الحقيقة إن حالتنا الحاضرة تمثل حالة الموت.

قلت: هيهات أيتها المادام أن يكون في النوم وفي الموت راحة مثل التي رأيناها في هاته الليلة حينما كانت أفكارنا سائحة في بحور التصورات اللذيذة.

أما هذه الكلمات فقد ذهبت بصفاء وانشراح كل منا فإن ذكر الموت الذي سيكون خاتمة عمرنا قد جعلناه ختاما لفرحنا وسرورنا في تلك الليلة على أن الموت الذي مع كوننا نرغب أبدا في أن نهرب منه نرى أنفسنا متقربين إليه فقد تمثل لنا كثيرا في تلك الليلة فتجلى لنا كأنه يقول بلسان الحال: إياكما أن تنسياني وفي هذا الوقت أيضا قد بدت لنا عظمة الخالق الباقي, وظهر لدينا عجزنا فرأينا بعين الحقيقة أن كل شيء فان ولا دائم إلا الله سبحانه, فهذا الفكر الرهيب لم يمكنا من البقاء حيث كنا فخرجنا نفتش على رفيقاتنا لنجتمع بهن ثم دخلنا جملة إلى القاعة في ضمن المنزل, وقد أثرت فينا تلك الأفكار تأثيرا شديدا, فصرنا نرجف من هولها وتنتفض من دهشتها, وفي تلك الأثناء أتي بالمبردات فطافت بها الجواري على الزائرات غير أن المادام ترددت في قبولها ومذ لحظت منها قلت: إنني راغبة في كأس من الشاي فهل ترغبين أيتها المادام أن يأتوك بكأس منه؟ قالت: لله أيتها السيدة, إنني اشكر لك وأرغب بالشاي وأرجو أن يؤتى إلي بكأس منه.

وما مر على ذلك بضع دقائق حتى أتي بالشاي المطلوب فشربناه فعاودتنا الحرارة, وبعد جلوس هنيهة من الوقت اتصل بالآذان صدى ترتيب مائدة السحور, فهبت المسافرات لاستدعاء القوارب.

أما المادام فأوصت أن يأتوها بعجلتها, ولما كانت القوارب رابطة على الرصيف وكانت تهيئتها أسهل من تهيئة العجلة تمكن الزائرات من ركوبها قبل مجيء العجلة فذهبت كل واحدة منهن في وجهتها المقصودة, ثم جاء النبأ إلى المادام بتهيئة العجلة فنهضت على أقدامها وارتدت بثوبها وأخذت مروحتها بيدها, ثم قالت وهي على قدم الذهاب: إنني أشكر لك شكرا جزيلا لما أوليتيني من المعروف في هاته الليلة ولا يخفى أن المقصد من السياحة إنما هو مشاهدة ما لم تشاهده العين ومعرفة الأشياء غير المعروفة وكما أنني ميالة إلى الوقوف على أحوال كل مكان هكذا كان من أخص آمالي أن أطلع على تركيا وعاداتها وأفكارها وعقائدها ولأجل ذلك صرفت في هذا السبيل وقتا طويلا ولم أقصر في النفقات ولكنني أقول الحق: إن المعلومات التي حصلت عليها إلى الآن لا توازي شيئا من العلم الصحيح الذي وقفت عليه هذه الليلة فأنا ممتنة جدا.

فقلت لها: إن إكرام الضيف ملتزم عندنا فمهما حصل في سبيل ذلك من المشقة فما نحسبه إلا محض راحة, لا جرم أن رغائبك لا تتعدى حد الكلام وهذا الكلام وهذا سهل للغاية فيا حبذا لو تكرر هذا الاجتماع ويا حبذا لو أمكن مصادفة كثيرات من أمثالك لأن محادثة عالمة وفاضلة نظيرك إنما هو من حسن الطالع, ولذلك أقدم لك تشكراتي القلبية على ما أنلتينيه من الحظ في هاته الليلة, وهاته العاجزة قد تحصلت بهذه المدة الوجيزة

<<  <   >  >>