للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:
فهرس الكتاب حرف الفاء وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها.

لأن الذين لا يمتثلون أمر الله ولا يجتنبون نهيه يكونون من الفاسقين ويستحقون في الآخرة العذاب ولكن مع ذلك فهم مسلمون إذ ينالون في نهاية الأمر جنة النعيم والله إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم بقدر إثمهم, ثم يدخلهم جنته ولا يدخل بين الله والعبد والمسلمون لا يحتاجون في استحصال العفو عن آثامهم كالنصارى إلى القسس وليسوا بمجبرين على الذهاب حالا إلى الجامع لأداء العبادة نظير المسيحيين الذين يكونون مجبرين في عبادتهم للذهاب إلى الكنيسة فإذا رغبوا في التوبة والاستغفار انسحبوا إلى زواية ما فناجوا الحق سبحانه وتعالى وليسوا بمجبرين أن يكشفوا ضمائرهم وخفاياهم لغير الله.

أما المادام فإنها بعد صمت قليل عادت إلى التفكر والتأمل بمقتضى لطافتها الطبيعية وصرت وإياها على اتفاق في الرأي وأما اللاتي كن في الرواق فكان بعض منهن يتحادثن مع البعض الآخر وبعض يجلسن في الرواق مسرورات بضوء القمر حتى إنهن طلبن القهوة مرة ثانية وأحببن أن يكرمننا بفنجان آخر على أننا اعتذرنا عن قبوله وكانت إحدى الزائرات في تلك الأثناء تنشد نشيدا تركيا بصوت خافت, وقد لاحظت على المادام أنها سرت من صوتها ونشيدها فإنها كانت ترعاها السمع, ثم ما عتمت أن باحت بسرورها وانشراحها من صوت المنشدة في مثل هذا الوقت الذي كان الهواء ساكنا به أما أنا فالتفت إلى المنشدة. وقلت: إنه حسن فأنشدي شيئا محزنا مؤثرا يناسب هذا الصوت المهموس.

قالت: ما الذي يجب أن أنشده.

قلت: شيئا من الحجاز.

فأخذت السيدة تنشد نشيدا لطيفا من الحجاز بصوت رخيم مؤثر للغاية وكانت المادام تصغي إليها تمام الإصغاء.

فقلت: أيتها المادام, أليست الأمواج التي تحصل من ارتجاج الهواء على ثوبك الحريري في المراقص تشابه هذا الصوت.

قالت: أجل إنني أفتكر بهذا الأمر ويلذني سماع الأنغام على اختلاف خروجها وفي الحقيقة إن المادام كانت تستمع الغناء بلذة لا مزيد عليها وبعد انتهاء الإنشاد حولت المادام ذهنها إلى التفكير في الصدى والموسيقى من حيث العلوم الحكمية كما أن هاته العاجزة على كوني لست بواقفة تماما على ما يمر في ذهن هاته المرأة العالمة من ضروب الحكمة العالية إلا أنني قد أخذت افتكر ببعض أشياء تواردت على ذهني القاصر, فسبحت في فضاء التصور مدة لا أعرف مقدارها ولكنني أعلم أن يدا مستني وصوتا دخل في أذني فالتفت, وإذا بجارية خدمتي الخاصة تنبهني قائلة: يا سيدتي, لقد مسك البرد.

قلت: إن يدك حارة فمن أين أتاك إنني بردت حتى أيقظتني.

قالت: إنني منذ هنيهة قد شعرت بالبرد فارتديت بالكساء, ولما رأيتك جالسة هنا ملتزمة جانب الصمت ظننتك راقدة فخفت أن تصابي بالبرد ولذلك نبهتك لأنني ما تمكنت من مشاهدة وجهك, فلما لمست يدك شعرت أنك باردة حقيقة.

قلت: فالحق معك فاذهبي وأتينا بغطاءين لأن ضيفتنا المادام تكون قد بردت أكثر مني من حيث إن يديها وعنقها لا يسترهما إلا ستار شفاف.

<<  <   >  >>