للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كسر البيت وتبيت في الخدر فإذا أصبح الصبح تطلقه فيستحي أن يخبر العرب بذلك، فأقام على هذا الحال سبعين ليلة، فلما كثر توبيخ العرب له واختلاف ظنونهم فيه خرج فلا يدري أين يذهب، وأقامت العقيلة ببيت أبيها لا تتناول إلا الأقل من الطعام بقدر ما يمسك الرمق ودأبها البكاء على عمرو وهو كذلك فإنه كان لا يرى إلا شاخصا إلى السماء متمسكا بحبل علق فوق رأسه من العشاء إلى الصباح وهو ينشد:

إذا جن ليلي فاضت العين أدمعا ... على الخد كالغدران أو كالسحائب

أود طلوع الفجر والليل قائل ... لقد شدت الأفلاك بعد الكواكب

فما أسفي إلا على ذوب مهجتي ... ولم يدر يوما كيف حال الحبائب

فلما كان بعد أيام دخل عليه صديقه فوجده غاصا بالضحك مستبشرا فسأله فقال:

لقد حدثتني النفس أن سوف نلتقي ... وبيدل بعد بيننا بتدان

فقد آن الدهر الخؤن بأنه ... لتأليف ما قد كان يلتمسان

ثم شهق شهقة فاضت نفسه قال الفرزدق: خرجت في طلب غلام لي أبق، فلما صرت على ماء لبني حنيفة جاءت السماء بالأمطار فلجأت إلى بيت هناك فخرجت لي جارية كأنها القمر فحيت ثم قالت: ممن الرجل؟ قلت: تميمي. قالت: من أيها قبيلة قلت: من نهشل بن غالب. فقالت: إذا أنتم الذين يقول فيكم الفرزدق:

إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول

بيتا زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل

فقلت: نعم، فقالت: قد هدمه كلم جرير بقوله:

أخزى الذي سمك السماء مجاشعاً ... واحل بيتك بالحضيض الأوهد

قال: فأعجبتن، فلما رأت ذلك مني قالت: أين تؤم؟ قلت: اليمامة فتنفست الصعداء ثم قالت:

تذكرت اليمامة أن ذكري ... بها أهل المروءة والكرامة

ألا فسقي المليك أجش جونا ... يجود بصوته تلك اليمامة

وحيا بالسلام أبا نجيب ... فأهلا للتحية والسلامة

قال: فأنست بها قلت: أذات خدر أم ذات بعل؟ فقالت:

إذا رقد النيام فإن عمرا ... تؤرقه الهموم إلى الصباح

تقطع قلبه الذكرى وقلبي ... فلا هو بالخلي ولا بصاح

سقى الله اليمامة دار قوم ... بها عمرو يحن إلى الرواح

فقلت لها: من هو؟ فأنشدت تقول:

إذا رقد النيام فإن عمرا هو القمر المنير المستنير

وما لي في التبعل من براح ... وإن رد التبعل لي أسيرا

ثم شهقت فماتت فسألت عنها فإذا هي العقيلة وضبط اليوم الذي ماتت فيه وجد موت عمرو فيذلك اليوم أيضا.

[عكرشة ابنة الأطروش بن رواحة]

كانت فصيحة الألفاظ، رقيقة أديبة، حرة المنطق، ذات عقل وافر، جامعة بين مزيتي الشجاعة والادب

<<  <   >  >>