يأتوني مسلمين فأتى به - كما تقدم- وكان بين سليمان والعرش مسيرة شهرين للمجد فلما علم الجن أنها آتية وأن سليمان ربما تزوجها فتفشي له أخبار الجن لأنها تربت عندهم، وانها إذا ولدت ولدا انتقل الملكإليه فلا ينفكون من تسخير سليمان وولده أساءوا فيها القول وقبحوها له وقالوا: إنها غير عاقلة ولا تميز وإن رجليها كحافر الفرس وهي شعراء الساقين، فأراد سليمان أن يمتحن ذلك فنكر عرشها بأن جعل تبديلا في الجواهر حتى ينظر هل تعرفه وأمر أن يبنى له صرح من زجاج وأجرى تحته الماء وجعل فيه من دواب البحر حتى إذا رأته حسبته ماء فتكشف عن ساقيها فيتحقق الأمر.
وقيل: بل بنى الصرح من قوارير زجاج وجعل له طريق من قوارير زجاج أبيض وتحت الطوابق صور دواب فصار كأنه البحر، وجلس سليمان على سرير في صدر المكان فلما وصلت بلقيس قيل لها:(أهكذا عرشك قالت كأنه هو)(النمل: ٤٢) . ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه فكيف جاء ههنا وقيل: إنها عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها فلم تقل نعم خوفا من الكذب ولا خوفا من التنكيت فعلم سليمان كمال عقلها ثم (قيل لها ادخلي الصرح فلما راتهحسبته لجة وكشفت عن ساقيها)(النمل: ٤٤) ، لتخوضها وقد قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون علي من هذا فلما رآها سليمان صرف نظره عنها (قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي)(النمل: ٤٤) ثم دعاها سليمان إلى الإسلام فأجابت فأراد أن يتزوجها وكره شعر ساقيها فسأل عن شيء يزيله ولا يضر الجسد فعلمت له الشياطين النورة وأشاروا بالحمام.
قيل: فكان ذلك أول ظهور النورة فتزوجها وأحبها حبا شديدا وردها إلى ملكها باليمن وكان يزورها في كل شهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام، فولدت له غلاما سماه داود ومات في حياة سليمان.
وقيل: أمرها سليمان أن تتزوج برجل من قومها فأنفت من ذلك وفقال: لا يكون في الإسلام إلا ذلك فقالت: إن لم يكن بد فزوجني ذا تبع ملك همذان فزوجه بها ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها على الملك وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته فاستعملتهم ذا تبع في بناء عدة قصور حصينة منها (صلخين) . وقيل:(سلجين) و (مرواح) و (قليون) و (هنيدة) و (بنون) وقصر (غمدان) أشهرها فلما مات سليمان لم يطع الجن ذا تبع فانقضى ملكه وملك بقليس بموت سليمان. وقيل: إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنه دفنها بتدمر وأخفى قبرها عن الناس.
[بكارة الهلالية]
كانت من نساء العرب الموصوفات بالشجاعة، والإقدام، والفصاحة، والشعر، والنثر والخطابة حضرت مع علي بن أبي طالب حرب صفين ولها هناك مقالات حماسية جعلت كل من سمعها يقدم على الهلاك بدون مبالاة بالعواقب وقد دخلت على معاوية يوما وهو يومئذ بالمدينة وكانت قد أسنت وغشي بصرها وضعفت قوتها ترتعش بين خادمين لها فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام وقال: كيف أنت يا خالة، قالت: بخير يا أمير المؤمنين قال: غيرك الدهر؟ قالت: كذلك هو ذو غير من عاش كبر، ومن مات فقد. فقال عمرو بن العاص هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
يا زيد دونك فاحتقر من دارنا ... سيفا حساما في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونا