رأسها ما درسته من الفنون وما اطلعت عليه من سائر آداب وآثار الدنيا أخذت تطوف في كل جهة من العالم بصورة لائقة بمركزها قصد التسوح والتفرج على آثار الكون.
[وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها.]
بعد أن نزعت ردائها وقبعتها وكنت قد سرحت بجملتها نظر الانتقاد قدمت لها ساعدي.
قالت: أيتها المدام إن جمعيتنا لما كانت خلوا من الرجال أقدم لك ساعدي فعساك أن تتفضلي بقبوله.
قالت: أشكر لك أيتها السيدة مكارم أخلاقك أفلست أنا متشرفة بالسيدة التي أثنت عليها صديقتي مدام ج.
قلت: إن العناية بالضيف فرض واجب القضاء علي فلا حاجة لما تفضلت به من عبارات الشكر والشرف الذي أشرت إليه إن هو إلا إحسان أولتنيه مدام ج. ... على غير استحقاق.
وبعد أن أخذت المدام بذراعها إلى القاعة عرفتها بصاحبة المنزل وأفراد العائلة وسائر من كان من الأقرباء والأنسباء كل منهن على حدة وترجمت لصاحبة الدار وأفراد العائلة التحيات التي كلفتها بها مدام ج. المومى إليها وبلغتها تشكر كل واحدة منهن وحينئذ تقدمت للمدام القهوة فشربت فنجانا كاملا وقالت: إنها مل تكن تألف شرب القهوة ولكن إنها لم تذق إلى الآن مثلها، ولذلك شربت الفنجان بتمامه أما أنا فقد بينت لها أن للترك طريقة مخصوصة لطبيخ القهوة تختلف عن طريقة الإفرنج وعرفتها كيفية طبخها، ثم أنبأتها أن القهوة هي من البن عكس التبغ فبمقدار تطوافها في البحر بمقدار ذلك يفسد طعمها، وأن هذه القهوة هي من البن اليمني قد أتى بها إلى الشام بواسطة عربان غزة وجلبت منها إلينا فلم تمر على البحر إلا من بيروت إلى هنا ولذلك كانت مرجحة على غيرها، ثم سألتني المدام عما إذا كان في عزم السيدات الموجودات عندنا أن يبتن في منزلنا هذه الليلة أم لا فقلت: أن منازل أكثرهن قائمة على الخليج فسيذهبن إليها على ضوء القمر وأن هاته الليلة هي الليلة الرابعة عشرة من الشهر فقد اخترنها للإفطار على قصد أن يستفدن بل يتمتعن بلطافة نور القمر وقت تمه.
قالت: إنني على حين كنت راضية بأن أجتمع بعائلة تركية فاجتماعي هذه الليلة اتفقا بعدة عائلات قد