وكان زوجها يعتمد عليها في مقابلة زواره وضيوفه وكان إذا دعا بعضهم إلى بيته يقول لهم: هلم نتمتع بحديث مدام "نكر". واعتزل الأشغال التجارية كلها وأناط بزوجته تدير منزله وأمواله فكانت تحل وتربط وتبيع وتشتري.
وقد بينت ابنتها مدام دوستايل الكاتبة الشهيرة سبب ذلك بقولها: لما رأى أبي أن أمي فقيرة لا مال معها ورآها شاعرة بذلك خاف أن تستصغر نفسها, فسلمها كل أمواله وخول لها التصرف المطلق فيها لكي تشعر من نفسها أن المال لها فتنفذ تخلص من صغر النفس.
وذهب "كين" المؤرخ المتقدم ذكره على باريس فدعاه زوجها إلى بيته وأحسن ضيافته وترحبت هي به وأخبرته أن دخل زوجها السنوي لا يقل عن عشرين ألف دينار, ثم عين المسيو "نكر" وزيراً لمالية فرنسا ومديراً لها, فأصلح شؤون المالية, واهتم بإصلاح السجون والمستشفيات, وكان الفضل الأول في ذلك لزوجته لأنها كانت تتعهد السجون بنفسها وتتفقد كل أحوالها وتدبر الطرق المناسبة لإصلاحها, وأنشأت بيمارستاناً بباريس, فسمي باسمها إلى هذا اليوم.
وأقام زوجها في هذا المنصب الرفيع خمس سنوات وكانت هي المدبرة لأموره لصعوبتها, وأقر زوجها بفضلها وكان زوجها يفتخر بها ويعدد فضائلها فلامه البعض على ذلك لكنهم أخطأوا في لومهم خطأً بيناً لأنه إذا حق الحق للإنسان أن يفتخر بآبائه وجدوده وبعلمه وآدابه كما فعل عمرو بن كلثوم والسموأل بن عادياء وأبو العلاء المعري في قصائدهم الفخرية حق له أيضاً أن يفتخر بآل بيته ولاسيما بزوجته إذا كانت ممن يفتخر بها كمدام "نكر" هذه التي كانت مرشدة لزوجها ومدبرة لأموره وزهرة فضل عرفها في بيته ولكن المناصب محفوفة بالمتاعب ومن رقي العلى استهدف لوقع أسهم الردى فلم يمض على المسيو "نكر" خمس سنوات في هذا المنصب حتى كثر حساده وخيف عليه من عدوانهم فعزم على الاستعفاء وحثته عليه زوجته حتى استعفى وتنحى عن الأشغال السياسية فأسف محبو فرنسا على استعفائه ولامها البعض منهم لأنها حثته على الاستعفاء ولكن عذرها واضح وحجتها دامغة ألا وهي أنها خافت عليه من العدوان وما تنفع المناصب والحياة في خطر وإلى ذلك لم أتأمل في عواقبه فاضطررت في الآخر أن أرغبه في تركه وقد أسفت فرنسا كلها على استعفائه, ونحن أيضاً آسفون جداً لاضطرارنا على ترك هذا المنصب ولاسيما لأننا نخاف أن لا تجرى أموره في مجراها بعد أن تركناه. أما مسيو "نكر" فلم يترك الاشتغال بعد تركه للمنصب -المذكور- بل أكب على تأليف كتاب جاء من أبدع الكتب فبيع منه في أسبوع واحد ثمانون ألف نسخة وألفت مدام "نكر" كتاباً في الطلاق أودعته آيات البلاغة, وطبعته سنة ١٧٩٤ م.
وتوفيت في تلك السنة بعد أن أصابها مرض عصبي مؤلم فحزن عليها زوجها حزناً مفرطاً. وأورى ضريحها بالعبرات وحق له الحزن والبكاء عليها لأنها رفعت لواء عزه وأنارت سبل حياته بذكاء عقلها وسمو آدابها.
[مريم مكاريوس]
ولدت مريم نمر مكاريوس في ربيع سنة ١٨٦٠ م في حاصبيا مدينة من مدن سوريا قبل حدوث المذبحة الشهيرة فيها ببضعة عشر يوماً وتيتمت من أبيها بتلك المذبحة التي شابت لهولها الولدان, فحملتها أمها مع أخيها إلى مدينة صيدا بعدما فرت بهم إلى قرية مجدل شمس بقرب جبل الشيخ, ثم أتت على مدينة بيروت وهي تغذيها بألبان الحزن وتغسل وجنتيها بدموع الحسرات وقامت عليها وعلى أخويها تربيهم بما اشتهر عنها من