للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحكمة والذكاء إلى أن بلغوا سن التمييز فأدخلتهم في إحدى مدارس القدس الشريفة ليتعلموا بها العلم الذي لم يكن لأمهم حظ منه لأنها ولدت وربيت في عصر كان تعليم البنات محظوراً فيه بحجة أنه غير لازم لهن ويخشى منه عليهن كذا ظن أهل ذلك العصر وهو ظن أقبح من إثم, فلم تلبث المترجمة في القدس إلا زماناً يسيراً حتى اختارت لها أمها مدرسة من أحسن مدارس بيروت أدخلتها ولم ترض أن تخرج منها قبل أن تتم دروسها كلها وتأخذ شهادتها فدرست من اللغة العربية وفنونها الصرف والنحو والبيان ومن الإنكليزية كذلك ومن العلوم التاريخية والجغرافية والحساب والفلسفة الطبيعية والهيئة وغير ذلك وتمرنت على الأعمال اليدوية من خياطة وتطريز ونحوهما, ونالت الشهادة المدرسية سنة ١٨٧٧ م وكانت وهي في المدرسة مشهورة بإخلاص النية وسلامة الطوية وذكاء العقل وشدة الحياء.

وبعد خروجها من المدرسة بقليل اقترن بها شاهين مكاريوس, فأنشأت له بيتاً زينته بلطفها ودبرته بحكمتها وفتحت أبوابه للأصدقاء الأدباء من رجال ونساء, فكانوا على مائدتها كأنهم في ناد من النوادي العلمية والمحافل الأدبية وهي تطربهم بعذب كلامها وتكرهم بخمرة معانيه ورزقها الله ثلاثة أولاد ذكرين وأنثى, فربتهم أحسن تربية وعلمت كبيرهم مبادئ العربية والإنكليزية, وكانت عازمة أن تعلم أخاه وأخته متى بلغوا سن التمييز, ولكن أدركتها المنية قبل تحقيق المنى فخسر أطفالها خسارة لا تعوض.

وفي غرة سنة ١٨٨٠ م اتفقت مع البعض من صديقاتها وعقدت جمعية أدبية سمتها "باكورة سورية", وانضم إليهن عدد من السيدات المهذبات, فكن يتناوبن الخطب والمناظرات.

ومن خطبها خطبة تاريخية انتقادية في الخنساء الشاعرة العربية الشهيرة جمعت فيها ما تفرق في كتب الأدب وشفعته بانتقاد مكين يدل على توقد ذهنها ودقة نظرها, وقد أدرجها "المقتطف" في سنته التاسعة.

ولها أيضاً مقالة عنونها حرارة الماء أدرجت في السنة الثانية منه ونبذ أخرى ورسائل ومناظرة عنوانها "بنات سوريا" مع البيكباشي الدكتور سليم موصلي. ومناظرة عنوانها "دفاع النساء عن النساء" مع الدكتور شبلي أفندي شميل مؤلف الشفاء سنذكرها في هذه الترجمة لأنها لا يزال صداها يدوي في الأذان حتى الآن وقد كان هذان الدكتوران طبيبيها الخاصين حتى ساعة موتها, وقد بذلا كل الجهد والعناية حفظاً لحياتها الثمينة, فأعياها الداء العياء.

ولها في اللطائف مقالة رنانة في حيات زنوبة ملكة تدمر ورسائل شتى لم تطبع. وقالت مرة في مطالعة النساء للقصص والكتب الفكاهية ما نصه: "نحن نميل طبعاً إلى قراءة سير الناس ولذلك نرى أكثر نساء العالم تقتبس معارفهن وفوائدهن من قراءة الكتب التي من هذا الباب ولا يخفى عليكن أن المرأة الصداقة لا تقصد بمطالعة الروايات وسير الناس مجرد تسلية الخاطر وإشغال المخيلة بما يهيج الأطفال ويسلي الأولاد الصغار, ولكنها تقصد أولاً تحصيل الفوائد اللازمة لها في حياتها مثل معرفة الأخلاق واختلاف الأحوال, وصروف الزمان والتصرف في النوائب, وفضل ممارسة الفضيلة, ووخامة مرتع الرذيلة, واعتبار العواطف الشريفة, والافتداء بالذين فاقوا في حسن صفاتهم وكرم أخلاقهم وفازوا بجميل صبرهم وأفادوا بحسن تربيتهم واهتمامهم بجبر القلوب الكسيرة, وتشجيع النفوس الصغيرة, وإصلاح شؤون هذه الفضائل وأمثالها تقصدها المرأة الحكيمة أولاً في مطالعة الروايات والسير, وتقصد الفكاهة والتسلية ثانياً وإني طالما وددت لو كان لنا نحن بنات اللغة العربية ما لغيرنا من الروايات التي إذا قرأناها لم تعل وجوهنا حمرة الخجل. ومن السير التي نجد فيها ما يوسع العقول ويهذب الأخلاق ويلطف العواطف, ويكمل الأدب ويعلم أحوال

<<  <   >  >>