[حدقة جارية الملك الناصر بن قلاون]
تربت في دار الملك الناصر وتعلمت الغناء والأدب وتدبير المنزل، وتخرجت على "مسكة" القهرمانية، وتعلمت منها جميع ما يلزم للمنازل الملوكية من التدبير. ولما توفيت "مسكة" تولت وظيفتها وقامت مقامها وصارت قهرمانية البيت السلطاني وصاروا يرجعون غليها في الأمور المتعلقة بالأعراس والمهمات وتربية الأولاد وعمرت زيادة عن "مسكة" وبذلك صار لها حظوة عند السلطان وحريمه مسموعة الكلمة منهما، ومن كثرة إحسانها وبرها تقاطر عليها المحتاجون لقضاء حوائجهم، سواء كان عند السلطان أو حرمه أو عندها، وهي لا ترد طالبا ولا ترجع أحدا خائبا.
وتقدمت لها هدايا كثيرة من الأمراء والأعيان وكل منهم كان يتمنى رضاها. وقد بنت جملة بنايات خيرية أوقفتها لصرف ريعها في وجوه الخير، وعلى الجامع الذي بنته بخط المريس في جانب الخليج الكبير مما يلي الغرب بالقرب من قنطرة السد التي هي خارج مدينة مصر، وكان انتهاء بناء هذا الجامع في ٢٠ جمادى الآخرة سنة ٧٣٧.
ولما توفيت "حدقة" دفنت فيه وقبرها معروفللآن. وأما الجامع فإنه تخرب ولم يبق غير آثاره، وهو غير مقام الشعائر الآن.
[حسانة النميرية ابنة أبي الحسين الشاعر الأندلسي]
كانت أحسن نساء زمانها، وأفصحهن مقالا، وأجملهن فعالا، تأدبت وتعلمت الشعر من أبيها، فلما مات أبوها كتبت إلى الحكم أمير الأندلس -وهي غذ ذاك بكر لم تتزوج- بهذه الأبيات:
إني إليك أبا العاصي موجعة ... أبا الحسين سقته الواكف الديم
قد كنت أرتع في نعماه عاكفة ... فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم
أنت الإمام الذي انقاد الأنام له ... وملكته مقاليد النهى الأمم
لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفا ... آوي إليه ولا يعروني العدم
لا زلت بالعزة القعساء مرتديا ... حتى تذل إليك العرب والعجم
فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه وأمر لها بإجراء مرتب وكتب إلى عامله على "ألبيرة" فجهزها بأحسن جهاز.
ويحكى أنها وفدت على ابنه عبد الرحمن متشكية من عامله جابر بن لبيد والي "ألبيرة"، وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها، فلم يفدها، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن فأقامت بفنائه وتلطفت مع بعض نسائه حتى أوصلتها إليه، وهو في حال طرب وسرور، فانتسبت إليهن فعرفها وعرف أباها، ثم أنشدت:
إلى ذي الندى والمجد سارت ركائب ... ي على شحط تصلى بنار الهواجر
ليجيز صدعي إنه خير جابر ... ويمنعني من ذي المظالم جابر
فإني وأيتامي بقبضة كفه ... كذي ريش أضحى في مخالب كاسر
جدير لمثلي أن يقال بسرعة ... بموت أبي العاصي الذي كان ناصري
سقاه الحيا لو كان حيا لما اعتدى ... على زمان باطش بطش قادر
أيمحو الذي خطته يمناه جابر ... لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر
ولما فرغت رفعت إليه خط والده وحكت جميع أمرها فرق لها، وأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينه وقال: تعدى ابن لبيد طوره حتى رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده ونحفظ بعد موته